شكرا لقرائتكم يا شيخ.. شكراً على النصيحة لكن السينما قادمة ونؤكد لكم باننا نسعى دائما لارضائكم والان مع التفاصيل
جدة - بواسطة طلال الحمود - قبل عامين زارني، في مكتبي بجمعية الثقافة والفنون، مناصح، بعد أن تبنت الجمعية عرضاً للجمهور لفلم «وجدة» للمخرجة السعودية هيفاء المنصور، إذ كان هذا العرض واحداً من الاشتراطات المطلوبة لترشيح الفلم لمسابقة جوائز الأوسكار.
جلس بهدوء راسماً ابتسامة على محياه ليؤكد أن اللقاء ودي، بل إنه أكد أنه منع مجموعة من «الإخوة» من القدوم معه حرصاً على عدم التوتر في الحوار. شكرته ورحبت به وبدأ حديثاً هادئاً حول ما يرى أنه حرمة السينما والعروض السينمائية، وأن الجمعية وأنا شخصياً نرتكب إثماً كبيراً في تبني هذا العرض.
وكان «الإخوة» الذين يتحدث عنهم قد اقتحموا مبنى الجمعية في ما يشبه المظاهرة الغاضبة ليلة العرض، يبحثون عني «لمناصحتي» و«الاحتساب» علي، ولما لم يجدونني طلبوا موعداً، وناب عنهم صاحبنا الذي له عليهم دالة الأقدمية والقيادة في ما يبدو.
لم أفاجأ بالمنطق الذي تحدث به ولا بالحجج التي ساقها، لكنني سألته: أنت بالتأكيد لم تشاهد الفلم، لكن هل نما إلى علمك أن فيه من المحتوى ما يمكن أن يكون مخالفاً للشريعة ولتعاليم الإسلام؟ قال: لا.. نحن متأكدون أن هذا الفلم ليس فيه شيء من المحظورات، ولكننا نخشى ونحذر مما سيتلو هذا من مخالفات لو تم التصريح بافتتاح قاعات العرض السينمائي، وأنتم تمهدون لهذا؟
ثم صعقني بعبارة ساحقة ماحقة، إذ قال: «إنه يعرف - وكاد أن يقسم - أن دور السينما في كل مكان في العالم ما هي إلا أوكار للدعارة والمخدرات». ولم يغير قناعته تأكيدي له، بل قسمي، أنني دخلت دور سينما في أماكن كثيرة حول العالم مع أسرتي أحياناً، ولم نشاهد لا دعارة ولا مخدرات. كما لم تتغير قناعته حين وصفت له الأثر الإيجابي الذي شهدته في عيون الناس في ميدان أكسفورد بلندن، وهم يخرجون من القاعة، التي عرضت فلم «الرسالة» للراحل مصطفى العقاد، يسألون عن الإسلام، وعن هذا الرسول العظيم، الذي يقدم لهم بهذه الصورة للمرة الأولى.
مثل صاحبنا هذا وغيره كثير ممن يحبون أن يسموا أنفسهم «محتسبين»، هم أناس مخلصون - من دون شك - لقضيتهم، وهم في الغالب ليسوا مسيسين، لذا لا أحسبهم ضمن تيار الصحوة المسيس حتى العظم، ولكنهم أبرياء مغيبون تماماً عن حقائق العصر باختيارهم، وليس لديهم استعداد للتصالح معه والتعامل معه بإيجابية بدلاً من الرفض المطلق الذي سرعان ما يتهاوى فور ثبات الحقائق على الأرض، وهو ما حدث تماماً مع تعليم المرأة، ثم التلفزيون، وقبلهما اللاسلكي، والراديو، هم في الغالب أسرى فكرة نقية غير قابلة للتطبيق للعودة بحياة المسلمين لعصر الرسالة والخلافة الراشدة بالأدوات والظروف نفسها، وباعتبار أن كل ما يأتي به غير المسلمين هو شر لا بد من دفعه ورفضه.
الأزمة التي عشناها خلال العقود السابقة كانت تتمحور حول التعامل مع هؤلاء المحتسبين ببراءتهم ثم مع الصحويين بمخططاتهم، كنا في خانة الدفاع والتبرير في معظم الأحيان في مواجهة ما يعتقدون أنه حقهم الطبيعي لقيادة الأمة والتحكم بصياغة مستقبلها، ولكم أن تتخيلوا لو أن قادة هذه البلاد من الملك عبدالعزيز إلى الملك سلمان استجابوا لأفكارهم، ماذا ستكون عليه حالنا وحال بلادنا؟
المسألة لا تتعلق بالسينما وحدها على أهميتها، لكنها تتعلق بكيفية صياغة الفكر الديني تجاه العصر وأدواته الحالية والمستقبلية. فحينما يأتي عالم شرعي شاب مستنير، مثل الشيخ صالح المغامسي، ويقول إن السينما حرام على اعتبار أن ما ينصرف الذهن إليه عند ذكر كلمة سينما هو الفجور، ندرك أننا أمام أزمة حقيقية، لأن مثل هذا الرأي يستكين إلى أن المسلمين سيبقون متلقين سلبيين لكل ما يلقى إليهم، وأنه لا قدرة لهم على استخدام هذه الأداة حتى للدعوة إلى دين الله، والمشكلة بالطبع أن الشيخ المغامسي كان يتحدث برأيه هذا عبر قناة تلفزيونية حرمها وحاربها من سبقوه للأسباب نفسها التي يحرم بها السينما الآن.
الأزمة ليست في أن السينما أصبحت حقيقة واقعة في حياتنا حتى قبل صدور قرار الترخيص بفتح دور عرضها في المدن السعودية، ذلك أن الدور ستفتح والناس سيذهبون لمشاهدة ما يعرض فيها، الأزمة تكمن في أن بعض علماء المسلمين ينظرون إلى عموم المسلمين أنهم ضالون، جهلة، ضعيفو الإيمان، يحتاجون إلى من يقودهم ويهديهم، وأنهم من الضعف لدرجة أنهم سيتنصرون بمجرد أن يشاهدوا صورة لصليب ولو كانت على شكل خطين متقاطعين على واجهة مبنى، وأنهم معرضون للانحلال والتفسخ بمجرد مشاهدتهم فلماً سينمائياً في مكان عام. شرحت لصاحبي الذي جاء ليناصحني أهمية دور العرض في قيام صناعة سينمائية سعودية قادرة على نقل قيمنا وديننا إلى العالم، وأنه هو شخصياً، أو من يراه من «إخوانه» يمكنهم أن يتدربوا على هذه الصناعة كأصحاب قضية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال: «لو أردت أن أدرب أحداً فلن أدربه عندك».
قلت: «إذاً جزاك الله خيراً على النصيحة والمناصحة، لكن السينما قادمة فماذا أنتم فاعلون»؟
نقلا عن "الحياة"
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.