من يتابع أحاديثنا اليوميّة باحثا عن مبانيها ومراميها، يسمع كيف أنّ كلّ واحد منّا يغضّ الطّرف عن نفسه ويشكو الزّمان ويعيب الواقع ويرى العوج كلّه في النّاس من حوله؛ يتحدّث عن جيرانه ويُحصي عيوبهم، ويقدح في إخوته ويُعدّد مشكلاتهم، ويعيب زملاءه في العمل بما يُشعر أنْ لا أحد منهم فيه مثقال ذرّة من خير.. يتحدّث عن النّاس من حوله كأنّهم كلَّهم شياطين مرجومون، وينسى نفسه، بل ربّما إذا تحدّث عنها زكّاها وأثنى عليها لكأنّما يتحدّث عن ملك كريم لا يعصي ولا يخطئ ولا ينسى!
تجد الواحد منّا يعادي أخاه من أبيه وأمّه لأجل حظّ تافه من الدّنيا، ويخاصم جاره بسبب خلافات أتفه ما تكون، ويقاطع كثيرا من إخوانه الذين يصلّون معه في بيت الله لأسباب تجعل الحليم حيران؛ هذا قرب منه رجله في الصف، وذاك نظر إليه نظرة لم تعجبه، والآخر زاحمه عند باب المسجد… وهكذا.
يحمل في قلبه العداوة والحقد والبغضاء لإخوانه، ويراهم شياطين يتمنّى أن تنزل بهم كلّ المصائب، بل يتمنّى اختفاءهم من الدّنيا، بينما ينسى عدوّه الذي سوّل له كلّ تلك العداوات، وأقسم على الله أن يضل العبد ويقوده معه إلى جهنّم، الشيطان الذي لا يترك العبد بالنهار ولا بالليل، ولا ييأس منه حتى يبعده عن طريق الجنّة.. ينسى العبد عدوّه الحقيقيّ، وينسى –مع ذلك- نفسَه الأمّارة بالسّوء التي تخدعه وتخفي عنه عيوبها وتفتّش له عن عيوب إخوانه من حوله.
لو التفت كلّ منّا إلى عدويْه نفسه وشيطانه، وخصّهما بالعداوة، وجاهدهما وخالف أمرهما، لاختفت كلّ العدوات والخصومات التي بيننا.. ولو التفت كلّ واحد منّا إلى نفسه ونظر في عيوبها ونقائصها، لوجد ما يشغله في يومه وليله عن عداوة إخوانه المسلمين، ولوجد ما يشغله عن تتبّع عورات النّاس من حوله.
الواحد منّا ربّما يحمل بين جنبيه نفسا أمّارة بالسّوء غافلة لاهية متعلّقة بالدّنيا سريعة إلى الشّهوات، بل ربّما تكون نفسه منتنة بسبب السّوء الذي تراكم فيها على مدار عقود من عمره: حرص على الدّنيا، تعلق بالشّهوات المحرّمة، حقد، غل، حسد، بغضاء،.. بل ربّما تكون نفسه قد تحوّلت إلى شيطان رجيم وهو غافل عنها منشغل بإيقاد الحروب والعداوات مع النّاس، مشغول بمراقبة النّاس وإحصاء عيوبهم وترصّد أخطائهم وزلاتهم.. لا يسلم منه جار ولا أخ ولا إمام ولا داعية ولا مصلح!
مصيبتنا في هذا الزّمان أنّ أنفسنا وادِعة هانئة مرتاحة بأنّنا لا نزعجها، بل نطيعها ونعبدها وندافع عنها بالباطل ونتعامى عن عيوبها ونوادعها ونتركها متلطّخة بأوساخها.. وربّما تمرّ بالواحد منّا عشرات السنين وهو لم ينظّف نفسه من عيب واحد، ولم يجاهدها في ترك خلق سيئ أو عادة قبيحة واحدة، ولم يرغمها على إقامة واجب من الواجبات.. ولو نظر إلى نفسه بصدق لوجد أنّها هي نفسه التي كانت معه قبل 20 سنة، بل ربّما ازدادت سوءًا.
لو جلستَ إلى أيّ أحد ممّن هم حولك وسألته: كم تحصي من عيوب نفسك؟ لسكت، مع أنّه لو صدق مع نفسه وحاسبها لوجد فيها عشرات العيوب.. وربّما يغرّه ما يسمع من مجاملات النّاس، وينسى أنّ حقيقته التي يقابل الله بها هي ما يعلمه الله عنه وما يعلمه هو عن نفسه وليس ما يظنّه النّاس. النّاس يجاملونه لأنّهم لا يعلمون كثيرا من عيوبه التي يعلمها هو عن نفسه.. أحدنا لو وصفه أحد النّاس بعيب أو نقيصة لاستشاط غضبا وتهيب للشجار والقتال، مع أنّه يعلم أنّ ذلك العيب موجود فيه حقيقة، وربّما يوجد فيه ما هو أسوأ وأشنع!
في واقعنا الكل يقول: “جيراني أصحاب مشاكل، إخوتي غرّتهم الدنيا، بنو عمّي سيّئون للغاية”.. الطبيب يشكو المرضى أنّهم لا يسمعون النصح، والمرضى يشكون الأطباء أنّهم لا يتقنون عملهم.. المعلمون والأساتذة يشكون التلاميذ والأولياء، والتلاميذ يشكون المعلّمين والأساتذة.. الأئمة يقرّعون المصلّين، والمصلّون يسلقون الأئمة بألسنة حداد…
كلّ واحد منّا يصنع عدوا يعلّق عليه تقصيره ويغطّي به عيوبه، وينشغل به عن مجاهدة نفسه. لماذا؟ لأنّ الكلام في النّاس سهل على النّفس بل محبّب إليها، والغيبة يسمّيها العلماء فاكهة المجالس، لأنّ النّفس تستلذّها، بينما مجاهدة النّفس ومراغمتها ومخالفة هواها، تحتاج إلى تعب ونصب وصبر، وقبل ذلك إلى صدق. مثل الدّواء المرّ الذي يدوم أمدا طويلا.
العبد الغافل الذي يخدعه شيطانه وتخدعه نفسه، يجد راحة عندما ينشغل بعيوب النّاس، لماذا؟ لأنّه يجد في ذلك سلوى ومبررا لتقصيره، فالنّاس كلّهم مخطئون وعيوبهم كثيرة! لذلك فلا حاجة إلى مجاهدة النّفس وتخليتها من عيوبها وتقويم اعوجاجها.
عندما نتحدّث عن سبب تأخّر المطر مثلا، كلّنا نُبِينُ عن السّبب بكلّ وضوح، وكلّنا نقول: “ذاك بسبب ذنوبنا، كيف ونحن نرى العري وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام؟ وكيف ونحن نرى من يمنع الزّكاة”، لكن لا أحد –إلا من رحم الله- يعود باللائمة على نفسه! لا أحد يقول: “أنا هو السّبب”.. لا أحد منّا يقول: “ماذا لو كان النّاس كلّهم مثلي؛ ألا تستحقّ الأمّة أن ينزل عليها عقاب من الله؟”.. تجده يتحدّث عمّن يمنعون الزّكاة، وهذا حقّ، لكنّه ينسى أنّه يأكل الحرام في تجارته أو في وظيفته.. يتحدّث عمّن يعادي بعضهم بعضا، وينسى أنّه هو نفسه لا يكلّم أخاه، ويعادي جاره، ويظلم زوجته!
والله يا إخوة الإيمان إنّنا لفي أمسّ الحاجة إلى الشّجاعة في مواجهة أنفسنا، كما نملك الشّجاعة في إحصاء عيوب النّاس من حولنا.. تجد الواحد منّا يقول: أنا صريح لا أجامل أحدا.. طيّب، وهل أنت صريح مع نفسك لا تجاملها؟ أم إنّك تكيل لنفسك بمكيال آخر غير المكيال الذي تكيل به للنّاس؟!
إنّ أعظم جهاد هو جهاد المرء نفسه، يغسلها وينقّيها ويزكّيها ويحلّيها بالخير والفضائل، ولا يتركها نفسا أمارة بالسوء مريضة يلقى بها الله كذلك فتقوده إلى جهنّم، بل يرقى بها لتكون نفسا لوّامة تلومه على الخطأ والتقصير والغفلة، وتحرّكه إلى الله، ثمّ يجاهدها حتّى تتحوّل إلى نفس مطمئنّة، تجد راحتها وأنسها في طاعة الله وطلب رضاه، وتنفُر من كلّ ما لا يحبّه الله ولا يرضاه.. وإنّه لفوز عظيم أن يلقى العبد ربّه وهو يحمل بين جنبيه نفسا تعب معها وبكى لأجلها وصام النّهار وقام الليل وتصدّق وأمسك لسانه ونظره حتّى لانت وخضعت وانقادت له على طريق الجنّة.
إنّ أهمّ مشروع ينبغي للعبد المؤمن أن يحمله في هذه الدّنيا هو إصلاح وترميم نفسه.. ولن يصلحها أبدا ما دام يتعامى عن عيوبها ولا يجد وقتا ليحاسبها، وما دام يجاملها ويصاحبها ويثق بها.. إذا أراد العبد لنفسه أن تصلح فليتّخذها عدوا، ولينزع منها الثقة، وليتّهمها.. قال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر بن الخطّاب -رضي الله عنهما- حين استخلفه: “إنَّ أوَّل ما أحذِّرُكَ نفسُك التي بين جنبيك”.. وكان الحسن البصريّ –رحمه الله- يقول: “ليس عدوك الذي إن قتلته استرحت منه، ولكن عدوك نفسك التي بين جنبيك”.
فيا أخي المؤمن، إن أردت بنفسك خيرا، فلا تنظر إليها من خلال ما يقوله المادحون، وما يردّده المجاملون.. أنت أعرف بنفسك، وأنت أدرى بعوجها وعيوبها: ((بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)).. لا يغرنّك مدحُ المادحين، ولا تلهينّك عبارات المدح والمجاملة: ((إنّهم لن يُغنوا عنكَ من اللهِ شيئًا)).. أنتَ أعرف بحقيقة باطنك وسرّك وما تكنّه في نفسك، وما ظهر منك للنّاس فهو من جميل ما أظهره الستير منك، وما يخفى عليهم من عيوبك وأخطائك لا يخفى على الرقيب الذي يعلمُ السرّ وأخفى.. اعلم أن الشهادة التي تنفعك حقيقة، ستستلمها يوم العرض على الله -جل وعلا-.
سلطان بركاني – الشروق الجزائرية
كانت هذه تفاصيل خبر نفسُك هي عدوّك الأوّل! لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على كوش نيوز وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.