غمرتنى الآهات والليالى والتفاريد وذهبت معها بعيدا وأنا أستمع لتسجيل قديم لدور «كادنى الهوى» من أداء فرقة الموسيقى العربية بقيادة المايسترو عبدالحليم نويرة، يرجع تاريخه إلى السبعينيات. تطريب جماعى غاية فى الروعة، وارتجالات انطلقت من شجن ورِقة مقام النهاوند الذى يستهل الأغنية ويصحبنى، متنقلا بين الحزن والمرح، إلى حياة اثنين من مبدعيها: الملحن الكبير محمد عثمان والمايسترو القدير عبدالحليم نويرة. غُصت أكثر وأكثر فى تفاصيلهما وفى زخارف الدور التى تم تطويعها ببراعة لتتماشى مع أداء الكورال، إذا ما قارناها بتسجيلات فردية لمطربين عظام مثل الشيخ يوسف المنيلاوى والشيخ سيد الصفتى وغيرهما كُثُر، فالدور هو من الأعمال الأخيرة لمحمد أفندى عثمان الذى توفى عام 1900، ونموذج يُدَرس لفكرة المسار الإلزامى فى بناء اللحن: بمعنى أن هناك مذهبا ثابت التلحين «كادنى الهوى وصبحت عليل مثل النسيم فى روض الحُسن، حِبى قمر، طالع على غصنه، كله أدب وطرب وجميل، ما لوش مثيل»، ولاحقا دور يسمح بالكثير من الارتجال «للحسن ده بالطبع أميل… ياللى تلوم دا شىء بالعقل، انظر كده».محمد عثمان فنان فذ، استطاع خلال مشواره القصير، إذ رحل عن ستة وأربعين عاما، تحقيق نقلة كبيرة فى نوعية الألحان الشرقية التى كانت تعانى من الركود، فهو من الرواد الذين وضعوا أسس الموسيقى العربية التى تميز بها عصر النهضة فى القرن التاسع عشر ويرجع لهم الفضل فى استكشاف المقامات العربية الأصيلة بعد أن كان نمط الغناء التركى هو السائد.
استلم محمد عثمان الراية من الشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب ــ أول من تصدى لتجديد التراث واستلهم من الألحان الشعبية القديمة ــ وقام بتنقيح وتطوير قالب الدور حتى أصبح أحد أساطينه وسار على دربه سلامة حجازى وداود حسنى وسيد درويش ومحمد عبدالوهاب وزكريا أحمد الذى لحن آخر دور (كقالب تقليدى) وغنته أم كلثوم وكان بعنوان «عادت ليالى الهنا».أضاف عثمان الغناء الجماعى (الكورس)، وذلك بعد أن قضى وقتا لا بأس به فى فرق الإنشاد الدينى قبل الانضمام لفرق التخت، كما ابتكر تبادل المقاطع بين التخت والمُغنى والكورس، الذى يعرف بالهنك والرنك. وقد ساعدته كثيرا حنجرة عبده الحامولى (1836ــ1901) فى توصيل ألحانه، إذ كان معاصرا له وغنى العديد من أدواره الشهيرة مثل «كادنى الهوى» و«أصل الغرام نظرة» و«قد ما حبك» و«ياما أنت واحشنى».
أسرح بخيالى وأنا أستمع إلى دور «كادنى الهوى» كما قدمته فرقة الموسيقى العربية تحت قيادة عبدالحليم نويرة، وأفكر فى الأشياء المشتركة بين الرجلين التى جعلت اللحن يخرج بكل هذا البهاء. نويرة كان يهتم كثيرا بدور الكورال والغناء الجماعى، وفرض فى معظم الأحيان تدوينا موسيقيا واحدا ابتعد فيه عن التوزيع الموسيقى، ودرب الفرقة على استلهام جوهر التراث وتجريده، فقد كان يردد دوما أن عملية إحياء التراث يجب أن تسبق استلهامه. لذا استعان بالكبار من حفظة الأعمال القديمة الذين كانوا على قيد الحياة وحاول جمع ما وقع تحت يده بعيدا عن التحريف والارتجال، إضافة إلى أنه هذب الأغانى ولجأ أحيانا إلى حذف التكرار الممل لكى تتناسب مع الجمهور، وبالتالى كانت تذاكر حفلات الفرقة فى بدايتها على مسرح سيد درويش بالهرم تنفد سريعا وتجذب أجيالا مختلفة.توزيع الأصوات فى «كادنى الهوى» وهى ترد على بعضها البعض وعلى الموسيقى يشى بمهارة فائقة وتمكن من أدواته الشرقية والغربية، فأداء المجموعة والعازفين يتراوح بين الشدة واللين، السرعة والبطء، القوة والضعف، حسبما تسير العواطف، كأنما نحن بصدد سيمفونية تشمل حركات متتالية. وما يفسر ذلك هو أن نويرة لم يكتف بدراسته فى معهد الموسيقى العربية لمدة ست سنوات حتى تخرجه بتفوق عام 1936، لكنه تعلم أصول الموسيقى الغربية والعزف على البيانو وتبحر فى عِلم الجمال. قضى ثلاث سنوات فى إيطاليا، ثم سافر إلى روسيا لمدة عام. تتلمذ على يد عدد من الأجانب، كما درسه فى المعهد أساتذة كبار، فتعلم الموشحات على يد الشيخ درويش الحريرى والأدوار على يد فؤاد الإسكندرانى والعود بواسطة صفر على ودربه كامل الخلعى على الألحان المسرحية. ثقافة موسيقية واسعة اكتسبها منذ الطفولة وصقلها مع الزمن نظرا لنشأته فى كنف أب من أعيان مدينة فارسكور، مولع بالموسيقى والغناء، يجتمع فى منزله أشهر الفنانين وقتها أمثال عبده الحامولى ومحمد عثمان وزكى مراد. وعند انتقالهم إلى حى العباسية بالقاهرة، التحق بمدرسة سان جوزيف حيث أتقن الفرنسية، قبل أن يرسله والده إلى الكُتاب لإجادة القرآن واللغة العربية.
وفى مدرسة فؤاد الأول الثانوية ربطته علاقة طيبة بأنور السادات وتزوج أخته سكينة فيما بعد.تعدد المشارب جعل الرجل نسيجا وحده. شغل مناصب مختلفة داخل وزارة الثقافة والإذاعة المصرية، وعمل بالتدريس فكان من تلامذته عبدالحليم حافظ وكمال الطويل. وقد انتهز فرصة وجود شخص مستنير مثل الدكتور ثروت عكاشة وزيرا للثقافة وقام بتأسيس فرقة للموسيقى العربية بمعاونة آخرين. ضمت الفرقة نخبة من عازفى الموسيقى الشرقية ومن أعضاء كورال القاهرة الذى كانت تشرف عليه رتيبة الحفنى، وقدمت أولى حفلاتها فى 17 مارس 1967. هدفها الرئيسى كان تنقية تراثنا وإحياؤه وحمايته من الاندثار، كما كانت وسيلة للتصدى إلى محاولات السطو والسرقة العلنية لبعض الألحان من قبل إسرائيل التى كانت قد أسست قسما للموسيقى الشرقية بإذاعتها فى أواخر الخمسينيات على يد يهودى مصرى يدعى إبراهيم المغربى، اشتهر باسم «فلفل المصرى. بالطبع محاولات إسرائيل وغيرها للسطو على التراث المصرى مستمرة حتى الآن.. فمن يتصدى لها؟
داليا شمس – الشروق نيوز
كانت هذه تفاصيل خبر كادنى الهوى لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على كوش نيوز وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.