محمد اسماعيل - القاهرة - انشغل الناس بقراءة الجرائد عن قراءة الكتب؛ ثم انشغلوا بقراءة التويتات والبوستات عن قراءة الصحف؛ وظل حال الناس هكذا حتى ضعف بصرهم، وقصرت بصيرتهم، وضاق أفقهم، ومضوا في غيهم هذا حتى كادوا ينسون صنف القراءة والكتابة, وباتوا يتواصلون بالرمز والإشارة، مرة يرسمونها على الورق، ومرة تصدر صوتا قبيحا من قعر الأنف يشبه الخنفرة، ومرة تشكلها أذرعهم وأصابعهم صريحة فاضحة أو خبيثة مبهمة.
ولما قل المال، وخاب الحال، ومللنا المقال، وكثر القيل والقال، فتاهت الحكمة في صفحات الفيس، وغمض على الناس تلبيس إبليس، رأينا أن ندعو ثانية أن "اقرأ"، ونبشر بين الناس بمذهب القراءة، وندلهم على بعض أجمل ما نصادفه منها، مراعاة لكسل النفوس، ونقص الفلوس، وتتييس التيوس.
هذا ما جاءني الإلهام به عندما قرأت كتابا شارف عمره على العشرين عام. "مقامات عربية" كتاب رائع للأديب الراحل محمد ناجي. صدر الكتاب عام 1999، وإن كنت لم أقرأه إلا مؤخرا. وتكفيرا عن تأخري، وتعميما للفائدة رأيت أن أحكي في كلمات قليلة عن المتعة التي وجدتها في هذا الكتاب.
الكتاب مكتوب بأسلوب المقامات؛ وفيه خمسون مقامة، تزيد أو تقل. تتبع المقامات نشأة وتطور السلطة والخرافة والإيديولوجيا والتفاهة والخبث والحسد والنفاق بأسلوب يشع حكمة وبهجة وسخرية، فلن تستطيع منع نفسك من الضحك بصوت عال، أي من أن تقهقه، وأنت تقرأ هذا الكتاب، حتى يظنك الناس مجنونا، فتختار أن تقرأ لهم بعض ما أضحكك، حتى لا يسيئوا الظن بك، وها أنا أقدم لكم بعض مما قرأت علكم لا تسيئوا بي الظن، فاقرءوا معي هذه المقامة العجيبة التي كتبها الراحل الرائع محمد ناجي عن السلطان زعبر:
كان زعبر كريما حليما بارا بأهله، دخل عليه أخوه مرة وسأله:
- لو كان في يدك قمع من سكر، ومر بك أخوك ابن أبيك وقال : "هات حتة"، فهل تبخل عليه؟
- بل أعطيه
فطلب منه أن يجلس إلى جواره وزيرا.
ولما عرف بقية أهله الحكاية، طلعوا من الحواري يسعون إليه كما النمل ، فسلموا عليه، وقال كل واحد منهم:
- هات حتة.
وكثر وزرائه من أهله، فنهض إليه قرقر أمير الحبوس، وقال له:
- كثرت أوزارك يا سلطان
- تقصد وزرائي
- بل هم أوزار وقد كثروا، وإذا كنت لا تعرف كيف تجمع الكلمة فراجعها في المعاجم.
ثم وثب عليه فذبحه، وحبس أهله، وجلس مكانه.
هذه واحدة من انتقالات السلطة الكثيرة المتتالية في "مقامات عربية"، والتي بدأها صاحبها محمد ابن ناجي بمقامة بديعة سماها "موقعة الأرنب"، هذا مطلعها:
لما لحس الجرب شعر سعد بن أرنبة، غطى قرعته بطرحة، وكحل عينيه وخلع نعليه، وعمل شيخ عرب. ولكي يقنع الناس بوضعه الجديد؛ نفخ صدره وملأ شدقيه بالهواء، فكان إذا تكلم بعبع، فلا نفهم نصف كلامة.
وكان على رأس كل حارة في زماننا شيخ عرب، ولكل حارة حيوان حارس تتخذه رمزا لها، ففرحنا حين ظهرت أمارات النجابة على سعد، واتخذناه شيخا، واتخذنا الأرنب رمزا لنا.
ولما كانت ليلة البيعة، سلخنا الأرانب، ودبغنا جلودها وعلقناها على أبواب بيوتنا، ثم عوجنا الطواقي وحزمنا خصورنا بالشيلان، وسرنا حول سعد في موكب مهيب ونحن نتراقص بالنبابيت ونرجز:
- يا سعد يا ابن أرنبة
لحست دماغك ثعلبة
فانبسط قلب سعد، وفرح بنا وضحك:
- كع كع
وعندما استقر الحكم للعقرب الكبير وابنه العقرب الصغير في دورة من دورات السلطة وتقلباتها، راح الكبير يلقن الصغير فنون حكم الأمراء، أو النخبة بلغة أهل اليوم، فقال:
- أنعم عليهم ولكن لا تسمنهم، فإنهم إن جاعوا أكلوا شعبك، وإن سمنوا استغنوا عنك. واجعل تحت كل واحد منهم مسمارا من رجالك تنخسه به إذا نسي نفسه، فيضعفان أمامك، هذا بخوفه منك وذاك بأمله فيك.
وقال:
- لا تقيد ألسنتهم، فإن الكلام شرك يصطاد همه صاحبه. ولا تمنع الناس عن شيء إلا مضطرا، واترك لهم أمر ما ينفعهم ولا يضرك، واطعم حلوق أهل الغناء السكر فيحلو كلامهم، لكن لا تقربهم منك فتهزل مجالسك.
وقال:
- احترس من رجل زاهد في النساء ففيه قسوة لا ترحم، ومن امرأة راغبة في الرجال ففيها نزق لا يصون، ومن ولد يتحدث بلسانك في المجالس فإنه يصغرك بين الناس، ومن بهيمة لم تروضها فإنها لا تحفظ قدرك، ومن آفة تدخل بدنك فإنها تحوجك إلى غيرك.
وقال:
- يا عقرب يا ابن العقرب، أكثر من أعيادك واختلق لأيام الحزن مناسبات للفرح، فيدخل هذا على ذاك فيبطله، ولا يبقى إلا لهو الناس وفرحهم.
هذا بعض ما تيسر من مقامات محمد ناجي العربية، وأتمنى لو أغرتكم بقراءة النص الرائع كاملا.