ما يحدث اليوم في كرة القدم ليس زلزالاً ولا إعصاراً ولا انقلاباً في المفاهيم، بل هو تحوّل وتشكل طبيعي للفسيفساء وللغة النقاش، جراء ما تعرفه الحياة من تقلبات، من تسارع وتيرة تغير أنماط التعبير وأشكال العيش، حيث لا مكان للنمطية ولا للكلاسيكية في التحليل.

بالقطع هذا زمن تقنية الفيديو التي حققت بعضاً من العدالة المفقودة، ولكنها تركت الزوايا المبهمة على حالها، من دون أن تصلها نقط الضوء، فمع استيطان «الفار» مدن كرة القدم، ظل المدربون يشتكون، وظل اللاعبون يتوعدون، وبرغم الذي تراه العيون مجرداً مع بطء الإعادات، إلا أن القرارات لا تكون كلها مصدر إجماع، فما كان مستغرباً أبداً أن ترتفع بعض الأصوات في فرنسا مطالبة بإلغاء اللجوء إلى تقنية الفيديو، والعودة بكرة القدم إلى طبيعتها المستباحة.

وبالتأكيد هذا زمن مواقع التواصل الاجتماعي التي تتحكم أحياناً في فكر ورقاب المدربين والأندية، سلباً وإيجاباً، وفي ألمانيا مثلاً انتفضت جماهير «البوندسليجا» ضد قرار أجمعت عليه الهيئة المديرة لكرة القدم الاحترافية، يقضي بتفويت الأندية بنسب كبيرة لشركات أجنبية، في إطار ما سمي بالانفتاح على الاستثمار الأجنبي وتحقيق عائدات مالية قياسية، ونجحت هذه المطالبات التي أخذت أشكالاً تعبيرية مؤثرة، في إسقاط المشروع في الماء.وسلباً تأخذ بعض التوظيفات لمواقع التواصل الاجتماعي كرة القدم إلى ملاعب ملغومة، بل ومحظورة، بفعل ما تنشره من خطابات التجييش وحتى الكراهية، وبحكم ما تستبيحه من قيم رفيعة للعبة التي تمثل جزءاً لا يتجزأ من تاريخ البشرية في قرونها الثلاثة الأخيرة.
كرة القدم بمفهوم عولمة إبداعات التعبير أصبحت مقترنة بالخيال والابتكار والذكاء الاجتماعي؛ لذلك يجنح التسويق اليوم إلى أنماط حديثة في التواصل، لاستغلال هذا الارتباط الفكري والرياضي اللامادي بين الأندية والملايين من عاشقي اللون والهوية والإرث، برغم اختلاف الأمكنة وحتى الثقافات والجنسيات.
كرة القدم ما عادت مختزلة في لاعبين يصنعون الخوارق، أكانوا من «طينة» ميسي، أو رونالدو، أو في تقليعات جديدة يمثلها كيليان مبابي، وإيرلينج هالاند.

كرة القدم ما عادت مجرد سباق شرس بين أنظمة وأساليب اللعب، بحثاً عن الجودة والتفرد وصناعة محتوى كروي جذاب، رغم أن هذه الأشياء هي الهواء الذي منه تتنفس كرة القدم، منذ عقود من الزمن، لقد غدت عالماً شاسعاً ومترامياً لا يستقر على شكل أو لون أو مساحة، بل هو كل يوم بلون وشكل، جراء التطور الكبير في أنظمة التدبير والتسويق، وفي أشكال الاستهلاك، وجراء هذا التوسع الرهيب لمفعول السحر، حيث أصبحت كرة القدم عنصراً يلهب الخيال العلمي والذكاء الجماعي، ويمثل وجهاً لهذا العالم الذي لا يتوقف عن صناعة الدهشة، ونحن بذلك مستمتعون.

بدر الدين الإدريسي – صحيفة الاتحاد