منذ انهيار النظام السوري، بدا واضحاً أن تحولاً ومنعطفاً خطراً دخلته ليس سوريا فقط وإنما المنطقة بأسرها، فهذا الانهيار المفاجئ والسريع، ترك تداعيات كثيرة في المشهد السوري، على الصعيدين الداخلي والخارجي، كان أخطرها التغول الإسرائيلي غير المسبوق في سوريا، الذي بدأ بتدمير القدرات العسكرية السورية، ولم ينته باحتلال «إسرائيل لأراضٍ سورية جديدة، بشكل باتت فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي، على مشارف العاصمة السورية دمشق، بل وحتى إلحاق ثلاث محافظات سورية مهمة هي القنيطرة ودرعا والسويداء بدائرة الاستهداف الإسرائيلي اليومي، تحت ذرائع واهية وحجج استعمارية، تعيد إلى الأذهان ما كان يسوقه المستعمرون الغربيون الذين جاؤوا إلى المنطقة، ولا سيما الاستعمار الفرنسي، الذي حاول تسويق شعار حماية المسيحيين لتبرير الاحتلال الفرنسي لسوريا. وفي محاكاة للمنطق الاستعماري الفرنسي يحاول قادة الاحتلال الإسرائيلي التوسعي استغلال ما جرى أو ما دُبر لسوريا من مخططات أدت إلى انهيارها، من أجل مزيد من التوسع في الأراضي السورية، ومحاولة إثارة النعرات الطائفية بين مكونات المجتمع السوري، بهدف إضعافه وفرض الأجندات الإسرائيلية على هذا البلد العربي،

وسرقة ثرواته ولا سيما المائية التي تشكل عصب الحياة بالنسبة للمشروع الاحتلالي الإسرائيلي، خاصة إذا ما علمنا أن مناخ فلسطين شبه القاحل ومواردها المائية المتواضعة، شكل محدداً لسياسة الاحتلال في إدارة المياه، حيث تشكل الصحارى نصف أراضي فلسطين المحتلة تقريباً، أما مصادر المياه العذبة الرئيسية فهي بحيرة طبريا ونهر الأردن والمياه الجوفية على طول الساحل وفي الجبال، لكن هذه المصادر لا تكفي، ما دفع إسرائيل إلى استخدام التقنيات التكنولوجية المتطورة لإعادة استخدام مياه الصرف الصحي حيث تعمل إسرائيل على تقليل اعتمادها على مصادر المياه الطبيعية. والحقيقة أن في هذا الواقع بالإضافة إلى رغبة إسرائيل في الهيمنة على المنطقة، شكلت المياه حجر الزاوية في الاستراتيجية الإسرائيلية التوسعية، حيث تزداد شراهتها لمصادر المياه العربية، مثل نهر اليرموك في الأردن ونهر الليطاني في لبنان، وأي مصادر مائية تستطيع الوصول إليها، كما هي الحال عندما سارعت إلى احتلال جبل الشيخ بالكامل بعيد سقوط النظام السوري السابق، ما يعكس ترجمة حقيقية لآراء ومخططات قادة الاحتلال الإسرائيلي الأوائل مثل حاييم وايزمان البيلاروسي الأصل،

وأول رئيس لإسرائيل، الذي كان يؤكد ضرورة احتلال مصادر المياه مثل جبل الشيخ ونهر الليطاني، فكما هو معروف يعتبر جبل الشيخ مصدراً أساسياً للمياه، حيث تنبع منه أنهار رئيسية مثل نهر الوزاني ونهر جرجرة، ما يوفر نحو 1.5 مليار متر مكعب من المياه سنوياً أما من الناحية العسكرية، فإن جبل الشيخ يسمى في إسرائيل، عيون الأمة، نظراً لارتفاعه، ما يجعله مكاناً استراتيجياً لوضع نظام الإنذار المبكر الاستراتيجي. وشكلت هزيمة العرب في الخامس من يونيو (حزيران) 1967 نقطة تحوّل، إذ سيطرت إسرائيل في عدوانها على الدول العربية على أراضٍ غنية بالمياه كالضفة الغربية ومرتفعات الجولان السورية، وهو ما يفسر إصرار الاحتلال الإسرائيلي على محاولاته التمسك باحتلال الجولان وضم الضفة الغربية أيضاً. من هنا نستطيع فهم الأهداف الإسرائيلية التوسعية في سوريا مؤخراً، والتي عبر عنها بكل وضوح وبلا أي مواربة رئيس لجنة الأمن القومي في الكنيست الإسرائيلي بوعاز بيسموت عندما قال إن إسرائيل لن تسمح بظهور قوة عسكرية في سوريا، وأن دمشق يجب أن تكون تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وأن سوريا هي جسر إسرائيل إلى الفرات والعراق وكردستان في المستقبل، على حد تعبير المسؤول الإسرائيلي. والحقيقة أن كل هذه المواقف الإسرائيلية لا تشكل جديداً لمن يقرأ ويفهم تاريخ إسرائيل، وفلسفتها، لكنها بكل تأكيد تقدم الدلائل المقنعة لكل ذي بصيرة عن الأهداف الحقيقية للاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني التوسعي، الذي يعتبر احتلاله لفلسطين مجرد منصة للتوسع لتحقيق ما يسمونه إسرائيل الكبرى،

وفرض الهيمنة الإسرائيلية الاستعمارية على المنطقة، بالتعاون مع القوى الغربية. أمام هذا المشهد، يبدو أن من أكثر ما يدعو للألم والاستهجان أن دولة عربية محورية مثل سوريا يتم تدمير قدراتها العسكرية والعلمية على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي. لكن رغم قتامة المشهد إلا أن ما يجري في سوريا سيمهد بكل تأكيد لظهور مقاومة سورية حقيقية للاحتلال الإسرائيلي، إن عاجلاً أو آجلاً، وسيكتب التاريخ أن الاحتلال الإسرائيلي بتوسعه في سوريا مهد لاستنساخ مقاومة جديدة لمشروعه التوسعي في المنطقة.

نبيل سالم – صحيفة الخليج

اسماء عثمان

محررة مسؤولة عن تغطية الأحداث الاجتماعية والثقافية، ، تغطي القضايا الاجتماعية والتعليمية مع اهتمام خاص بقضايا الأطفال والشباب.