الارشيف / اخبار العالم / أخبار السودان اليوم

الحوثيون وتحدى الإمبراطورية

ليست التكنولوجيا التي يستخدمها الحوثيون في تهديد الملاحة والتجارة الدولية العابرة في البحر الأحمر معقدة أو مركبة على نحو خاص. استهدف الحوثيون السفن والحاويات بمُسيرات وصواريخ كروز، بل بصواريخ باليستية. لا تتجاوز تكلفة بعض المُسيَّرات عدة آلاف قليلة من الدولارات، فيما الدمار الذي تُوقعه بالتجارة الدولية يتخطى المليارات. الاضطراب في الملاحة الدولية، والذى نشأ عن الهجمات الحوثية، اقتضى تكوين تحالف عالمى تقوده الولايات المتحدة، التي قامت قبل يومين- جنبًا إلى جنب مع بريطانيا- باستهداف مواقع حوثية بضربات جوية مركزة على سبيل الردع، ولإيصال رسالة بإمكانية التصعيد، إذ سدر الحوثيون في غيهم. على أن هذا التحالف، وكذا الضربات الأمريكية البريطانية، لا يُغيران من جوهر المشهد العجيب وغير المسبوق في البحر الأحمر: جماعة مُسلحة، لا يُمكن نعتها سوى بأنها شبه دولة، تسببت في اضطراب هائل بمسارات التجارة عبر ممر مائى عالمى رئيسى تعبر خلاله نحو 12% من التجارة الدولية.

كيف يتأتى لجماعة ذات قوة محدودة، تمتلك تكنولوجيا بسيطة، أن تُحدث تأثيرًا عالميًّا على هذا النحو الخطير؟. ربما تكشف الإجابة عن هذا السؤال عن ملمح مهم للنظام العالمى الذي يتشكل اليوم، وهو ملمح لا يظهر سوى بالمقارنة بما كان عليه الحال تاريخيًّا.

إن أمن الممرات البحرية يقع في قلب النظام العالمى القائم، بل أي نظام عالمى توفرت له أسباب الهيمنة والاستمرار. تاريخيًّا، يُعد تأمين مسارات التجارة في البحر، (وهى كانت، ولا تزال، الأكثر أهمية بوصفها الأقل تكلفة بما لا يُقارن بأى وسائل أخرى) من مهام القوى الكبرى، أو القوة العظمى المهيمنة. ما جعل من روما إمبراطورية في العالم القديم هو ذاك التحكم في مسارات التجارة وتأمينها من خطر القرصنة، أو من تهديدات المنافسين. بلغ من سطوة الرومان أن أطلقوا على البحر المتوسط- الذي كان مركز التجارة في العالم القديم- مُسمى «بحرنا»، إذ لم يعد ثمة منافس لهم على شواطئه، أو قوة أخرى تتحدى السلام الذي بسطوه على مياهه وسواحله. العوائد المالية التي تدفقت على الإمبراطورية بواقع هذا «الإمساك» بمفاتيح «المتوسط» والتجارة العابرة خلاله كانت العامل الرئيسى في قوة روما، ذلك أن الإمبراطوريات تُبنى بالمال والقوة العسكرية المقاتلة، (التى تحتاج بدورها للمال!)، والعاملان توفرا لروما على نحو غير مسبوق في التاريخ تقريبًا. المفتاح الرئيسى تمثل في هذه السيطرة على ممرات التجارة في البحر.

وليس صعبًا تتبع تاريخ الإمبراطوريات عبر ألفى عام لإدراك هذه الحقيقة الجوهرية: تأمين التجارة الدولية هو الوظيفة الأهم للقوة العظمى، والمصدر الأكبر للعائد الذي يتدفق على خزائنها في الوقت نفسه. الإمبراطورية الإسلامية لم تكتمل لها المكانة المُهيمنة لقرون سوى بواقع تحكمها في طرق تجارة رئيسية، بل إن الإمبراطورية المغولية، على قصر عمرها، انطلقت في الأساس من توفير حالة من الأمن غير المسبوق للطريق البرى الطويل العابر من آسيا إلى البحر المتوسط، فأوروبا، والمعروف بطريق الحرير. وبطبيعة الحال، يمكن النظر إلى عصر ازدهار دولة المماليك بوصفه محصلة مباشرة لتحكمها في طرق التجارة التي تمر من خلال مصر. وبالمثل، يمكن أن نعزو انحدار هذه الدولة إلى اكتشاف طريق جديد للتجارة بالدوران حول إفريقيا.

وفى العصر الحديث، تناوبت قوى أوروبية مختلفة على السيطرة على طرق التجارة، خاصة بعد اكتشاف العالم الجديد، وصولًا إلى الولايات المتحدة، التي حققت هيمنة متصاعدة على الممرات البحرية منذ مطلع القرن العشرين، تعززت بانتصارها في الحرب الثانية، ثم اكتملت على نحو كامل، وغير مسبوق تاريخيًّا تقريبًا لأى إمبراطورية، بانهيار منافسها اللدود- الاتحاد السوفيتى- قبل نهاية القرن.

استثمرت الولايات المتحدة، بوصفها القوة المُهيمنة، موارد وإمكانيات هائلة من أجل تأمين مكانتها كقوة حامية لأمن الممرات البحرية عبر العالم. حاملات الطائرات والقواعد الأمريكية منتشرة في مفاصل أساسية حاكمة. تتحكم الولايات المتحدة في هذا النظام عبر سلسلة من التحالفات لا نظير لها في العالم. العوائد التي تحصل عليها الولايات المتحدة من استقرار هذا النظام تُبرر ما تنفقه وتستثمره في استمراره، بل تُبرر الدفاع عنه بالانخراط في حروب، إن لزم الأمر. تضاعُف حجم التجارة الدولية في العقود الأخيرة يصب في مصالح الكثير من الدول، ولكن تظل الولايات المتحدة مستفيدًا أكبر. الأمر لا يختلف في جوهره عن وضع روما في العالم القديم، وما كانت تُحصله من عوائد التجارة بواقع ضمانها للأمن والسلام. ليس مصادفة، والحال هكذا، أن تسعى القوة الراغبة في مناطحة الولايات المتحدة- أي الصين- إلى تحدى هذا النظام عبر استهداف أهم قواعده: أمن الممرات البحرية. منذ عقد على الأقل، تناضل الصين بإصرار لفرض واقع جديد في بحر الصين الجنوبى. غايتها الواضحة هي طرد أمريكا من منطقة المحيط الهادى. بكين تعرف أن مكانة أمريكا كقوة مهيمنة نابعةٌ في الأصل من هذه السيطرة على الممرات البحرية.

تاريخيًّا؛ لم يكن تحدى القوة المهيمنة يصدر فقط عن إمبراطوريات منافسة أو طامحة. الحقيقة أن التاريخ لم يخلُ في أي وقت تقريبًا من جماعات صغيرة مسلحة تتحدى قوى كبرى. القراصنة هم النموذج الأوضح في هذا الباب. تعرضت روما وبريطانيا والولايات المتحدة لتهديدات من القراصنة في فترات مختلفة. العصابات المسلحة والقبائل التي تسكن الجبال والصحارى (الميليشيات بلغة عصرنا) طالما شكلت تهديدًا على الإمبراطوريات، وما تفرضه من هيمنة على طرق التجارة. مشكلة هذا النوع من التهديد كانت تكمن دومًا في صعوبة ردع الأطراف التي تقوم به. غير أن الإمبراطوريات، من روما إلى الصين إلى بريطانيا، اضطرت في فترات مختلفة من تاريخها إلى التعامل مع هذه التهديدات التي تنبع من أطراف أضعف، تُهاجم بضراوة في نقاط متفرقة، وفق أسلوب «اضرب واجرى».

هل يختلف الحوثيون في شىء عن هذا النمط التاريخى الذي نعرفه؟.

الحقيقة أن ثمة اختلافًا مهمًّا يمكن رصده: التكنولوجيا.

رغم الفارق الهائل في التكنولوجيا بين الإمبراطورية (الولايات المتحدة)، والعصابات المارقة (الحوثى)، فإن التكنولوجيا البسيطة والرخيصة، التي صار في إمكان جماعات مثل الحوثيين وحماس وحزب الله الحصول عليها، بل تصنيعها وتشغيلها، أثبتت فاعلية كبيرة في إحداث أضرار وإنزال خسائر استراتيجية بقوى عسكرية وتكنولوجية متفوقة ومهيمنة، خاصة إذا تم توجيه هذه التكنولوجيا إلى مفاصل استراتيجية مثل باب المندب. عملية 7 أكتوبر التي قامت بها حماس في غلاف غزة تُحاكى نفس هذا النمط.

لإدراك التأثير الاستثنائى للتكنولوجيا، علينا توسيع دائرة النظر. الأمر لا يتعلق فقط بالمُسيرات والصواريخ. مجرد توفر تكنولوجيا متعددة الأغراض مثل الهاتف الذكى في يد كل إنسان، يُضاعف تلقائيًّا من قوة الجماعات العسكرية الصغيرة. نحن اليوم نعتبر الـGPS أمرًا مفروغًا منه، ولكن هذه التكنولوجيا كانت محصورة قبل عقدين لا غير في يد أجهزة الاستخبارات للدول الكبرى. بل إن توفير الاتصال اللحظى عبر برامج الرسائل التي توفرها أرخص الهواتف الذكية يزيد من فاعلية الاتصال والسيطرة لدى الجماعات المسلحة الصغيرة على نحو لم يكن يتوفر في السابق. ولا ننسى أن عملية 11 سبتمبر تم التخطيط لها وترتيبها عبر استخدام غير تقليدى للبريد الإلكترونى.

هذا الاتجاه تصاعد على نحو متزايد منذ دخولنا عصر الإنترنت، الذي وفر معلومات وإمكانيات معرفية لم تكن متاحة من قبل للأفراد والجماعات.. بما فيها الجماعات العسكرية والميليشيات. لا أحسب أن هجوم 7 أكتوبر كان يُمكن أن يُكتب له نفس القدر من النجاح في عالم بلا إنترنت أو هاتف ذكى وغير ذلك من التكنولوجيات متعددة الأغراض التي تتوفر اليوم للإنسان العادى. تأثير هذه التكنولوجيات في اجتراح عمل عسكرى ناجح لا يقل عن تأثير المُسيرات والصواريخ الرخيصة التي تطلقها حماس والحوثيون، بل إن الحصول على المسيرات والصواريخ، وتصنيع بعضها وتشغيلها، يعتمد في الأساس على التكنولوجيات متعددة الأغراض.

إنه اتجاه سوف يتصاعد في المستقبل أيضًا، إذ تأتى الموجة القادمة حاملة معها جيلًا جديدًا من التكنولوجيا يتمثل في الذكاء الاصطناعى، الذي يتنبأ الكثيرون بأن انتشاره قد لا يختلف عما نراه اليوم من الهواتف الذكية. هل تستطيع القوة المهيمنة الحفاظ على النظام العالمى بقواعده- وعلى رأسها أمن الممرات البحرية- في ظل انتشار هذه التكنولوجيات؟. سؤال مفتوح.

جمال أبو الحسن – المصري اليوم
%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84%20%D8%A7%D8%A8%

كانت هذه تفاصيل خبر الحوثيون وتحدى الإمبراطورية لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.

كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على كوش نيوز وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.

Advertisements