تأخّـرت الفـلسفـة في تحـويـل موضوع العنـف إلى سـؤالٍ إشكـاليّ فيها مع أنّ اتّـصالَ العـنـف بالسـياسـة والسلطـة كان حـريًّـا بـه بأن ينـبّـه الفـلسفـة السياسية الإغـريقـية إليه. ذلك عـيْـنُـه ما وقَـع لأسئـلةٍ أخـرى شديدةِ الاتّـصال بالسّياسـة – تُجـوهِـلَت، لـفـترةٍ طويلة، قبـل أن ينصـرف إليها التَّـفـكيرُ والتّـأليف؛ مثـل سـؤال الحـريّـة. صحيـحٌ أنّ أفـلاطون وأرسطو لاَمَـسَا موضوع العـنـف من حـواشيـه حين انـتـقـد كـلٌّ منهما نمـطًا بعيـنه من الأنظمـة السياسية يقـوم عليـه هو النّـظام الطّـغيـانـيّ (Tyrannique)، وحين وقَـفَـا معًا موقـفًـا سلبيًّـا من النـظام الـدّيمقراطـيّ؛ حيث نظام الطّـغيـان، عنـدهما، مبْـناهُ على الاعتـساف وعلى مصلحـة الحاكـم؛ وحيث النّـظام الـدّيمقراطـيّ بيئة خصبة للفوضى ولعبثِ الـدّهمـاء، وهُـما -بهـذا المعنى- نظـامان يهـدّدان الاستقـرار وينشران الفوضى الاجتماعيّـة. بـل إنّـهـما تناولا، عَـرَضًـا- ظاهـرة الثـورة والثوران الاجتماعيّ التي تـقع حين ينـتـقـض الاستقرار في الـدّولة. غير أنّ هـذه الملامسـة الخارجية للعنـف -وقـد تكـرّرت عند أبي نصـرٍ الفارابـي كذلك- لـم تَـرْق إلى حيث تـتـناول مسألة العنف بما هي مسألة جـوهرية في بنيـة السياسـة.ربّما كان الفـقهاء في تاريخ الإسلام أشـدَّ اهـتمامًا بالمسألة من الفلاسفة -أغارقـةً كانوا أو مسلمين- وأشـدَّ إلحاحًا على التّـنبيه عليها في ما كـتـبوه عن السّياسة والـدولة والسلطان. وما كان هاجسهم أن يقـدّموا المـوقـف الشرعي من العنـف، بـل راموا تـنبيـه الجماعة والسّلطان على المغـبّـة من شيوعـه؛ لأنّ بـه يكون انتـقـاضُ أحوال الممالك. والحـقُّ أنّـه لم يكـونوا في حاجـةٍ إلى كبيـرِ جَـهْـد كي يُـقـنـعوا مخاطَبيـهم بصحّـة ما يذهبـون إليه في هذا؛ فلـقـد عَـرَضَ للجماعـة الإسلاميّـة من العنـف ما أفْـسَد عليها يوميّـاتها وأَذْهـبَ وحْـدتَـها وازْدَرع بـذور الشِّـقاق والفُـرقـة فيها وبالتّـالي فهي شاهـدةٌ على مـفْـسَدَتـه وخَـطَـره. ولم يكن كُـتّـاب الآداب السـلطانية وحـدهم مَـن جـرَّد رسائـل في مسـألة العنـف ونـبّـهوا السـلطان والأمّـة عليه، بـل قاسَمَـهم فـقهاءُ السّياسـة الشـرعيـة ذلك الانشـغال فوضَـع منهم مَن وضع تآليـف في المسألة؛ سواء في ما كـتبـوه خصّيـصًا في مجـال فـقـه البُـغاة والفـتـنة أو ما كـتـبُـوه عـن الجـور ومساوئـه وتـبِعاته على المـمالك.
ولعلّ أكـثر الكـتب العربيّـة إلحاحًا على هـذه المسألة في تـراث الإسلام هـي كـتب متـأخِّـري كـتّـابهم، من الذين عاصروا زمـن الأفـول الحضاريّ، مثـل ابن خـلدون وابن الأزرق اللّـذين شـنَّـعا على الاستبـداد وبيّـنا كيف أنّـه كان طـريقًـا سالـكًا نحـو اضمحـلال الـدّولة.على أنّ الفـكـر السياسي الحـديث ما لبـث أن عاد إلى التـفـكير في العنـف، وإنْ جـزئـيًّـا، وذلك منذ أن سلّـطت كتابات ميـكياڤـيـلّـلي الضّـوء عليه، بما هـو جـزء من كيان السياسـة، ثـمّ بعد أن فـرض الموضوعَ سيـاقٌ سياسيّ وتاريـخيّ دراماتيـكـيّ مـرّت بـه أوروبا طـوال ما يزيـد عن مائـة عـامٍ من الحروب الـدّينـيّـة. ولا يـغْربـنّ عن بال الباحث في الموضوع أنّ المـدخـل إلى تسويـغ الحاجـة إلى الـدّولة، في الفلسفـة الحديثة، كان هـو القـول إنّ الـدّولة وحـدها هي التي تستطيع أن تضع حـدًّا للعـنف الذي يهـدِّد الاجتماع الإنسانيّ بالفـنـاء؛ حتّى أنّ فلسـفةً سياسـةً بكاملها (فلسفة العـقـد الاجتماعيّ) قامت على افـتراض وجـود مجتمـعٍ سابقٍ لقيام الـدّولة قام على علاقات العنـف المتبادل -أو حـرب الجميع على الجميع بعبارة توماس هوبس- الأمر الذي قضى بوجوب إنهاء هـذه الحال من الاقـتـتال بإقامة الـدّولة والخضـوع لسلطانها وقوانينها التماسًا للأمـن والسِّـلم…
والبقـاء. وليس معنى ذلك أنّ الفلاسفة المحـدَثين افترضوا العنـفَ فعـلًا صادرًا عن المجتمع يحتـاج إلى السّياسة (الـدولة) من أجـل ردْعـه؛ ذلك أنّهم -في المقابـل- ظـلّوا ينـتـقدون أنماط أنظمة الحكم التي تـقيـم السلـطة على مقـتضى العنـف: من طغيانٍ واستـبدادٍ وتسـلُّـط. وفي مـوقـفهم هذا ما يدلُّـنا على أنّـهم لم يـبرحوا النّـظر إلى العنـف في اقـترانه الماهـويّ بالسّياسة، أي من حيث هـو ظاهرة سياسية.لـن يلبـث التّـفـكير الفلسفـيّ في ظاهرة العنـف أن يـزيد مع الزمـن: في الفلـسفـة الحديثـة كما في الفلـسفة المعاصرة، أحيـانًـا مـن طـريق التّـفـكير في السِّـلم (إيمانويـل كَـنْـت)، وفي أخـرى من طريق النّـظر في صلات العنـف بالـدّولة (هيـغـل) أو بالصّـراع السّياسيّ (إنغـلز). ومنذ هيـغل، أمكن للفلسفة أن تُـطَـوِّر نظـرتها إلى الموضوع وزوايـاه بعيـدًا من أحكام القيـمة؛ وهـو المنحى الذي سيـرسّـخه النّـظر إليه داخل علـم الاجتماع السّياسيّ في بـدايات القـرن العشريـن، وخاصّـةً مع أعمال ماكس ڤـيـبر. ولم تكـن الحرب العالميّـة الثّانيـة قـد اندلعـت، واستـتبّ الأمـرُ للنّـظام النّـازيّ في ألمانيا والسـتاليـنيّ في الاتّـحاد السّـوڤـييتيّ، حتى عاد سؤالُ العنـف يطـرق أبـواب الفلسفة والعلـوم الاجتماعيّـة ويُـثْـمـر نصوصًا فـكريّـةً ودراساتٍ تحليـليّـةً في غايـة الأهميـة والقيمة في مضمـار فـهـم الظّاهـرة والكـشف عن آلياتها المعـلَـنة والمضمَـرة. لقد بـرَّر ذلك، من جـديد، شرعيّـةَ النّـظر إلى العنـف بوصفـه سؤالًا فـلسفـيًّـا أو، قُـل، ينتمي إلى فلسفة السّياسة.
عبدالإله بلقزيز – جريدة عمان
كانت هذه تفاصيل خبر العنف بوصفه سؤالاً فلسفياً لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على كوش نيوز وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.