الارشيف / اخبار العالم / أخبار السودان اليوم

حب الجاكرندا

  • 1/2
  • 2/2

فى سنوات طفولته، كانت جدته بالنسبة له هى سيدة العدسة المكبرة. تجلس خلف النافذة المغلقة تراقب العابرات فى الشارع وبجانبها فنجان القهوة. ومع الوقت راح يكتشف تدريجيا الفصول المختلفة لحياة تلك الفتاة التى كانت تحب الأفلام الهزلية وتحلم بالسفر وبرحلات القطارات وتنعشها رائحة الليمون، وكيف تحولت إلى حبيبة مهجورة تدعى الابتسام لكى تخفى دموع الاكتئاب. عرف حكاية اسمها العجيب المنتشر على ألسنة أفراد العائلة حين ينادونها بالجاكرندا، لم يكن يفهم معنى هذه الكلمة الغريبة، خاصة وأنها كانت توقع «ميرفت» على أى مستند رسمى، كما هو وارد فى أوراق الثبوتية. ذكرت أمه فى إحدى المرات وهم يسيرون فى الحديقة المجاورة لمنزلهم أن الشجرة الوارفة دائمة الخضرة التى تزينها أزهار زرقاء تميل للون البنفسجى ويتموج ساقها بين الرمادى والبنى يطلق عليها «الجاكرندا». لا يزال غير مستوعب أن تلك الشجرة الجميلة التى تنتمى أصولها لأمريكا الاستوائية، بحلتها الزاهية خاصة بين شهرى أبريل ويونيو، ترتبط بالأسى فى أذهان البعض فيرددون أنها «شجرة حزينة» تعبر عن حكايات مثقلة بالحنين والفقد والآلام. ثم قال لنفسه إن «تيتة جاكرندا» بكل حنانها ورقتها لها وجه حزين هى الأخرى، لأنها تعيش على ذكريات حب عميق لم يدم طويلا لكنه ترك فراغا لم يملأه أحد، منذ أن رحل زوجها فى فلسطين خلال منتصف الخمسينيات.

الملابسات الدقيقة لموته ظلت وستظل غامضة، لكنها حكاية أصبحت متوارثة وذائعة فى كواليس العائلة، تماما مثل قصة تسمية ميرفت بالجاكرندا. كان والدها هو من أطلق عليها اسم الشجرة التى كانت تزين جانبى شارع عماد الدين، فى سالف العصر والأوان حين كان يسكن هناك. اعتبرها أجمل شجرة فى الكون وعشق رائحة الهواء الذى كان يصل إلى شرفته محملا برائحة أزهارها قبل أن تسقط على الأرض، لذا قرر أن يسمى أولى بناته “جاكرندا”، وحين اعترضت رفيقة دربه تراجع عن موقفه واكتفى بأن يكون الاسم الأثير إلى قلبه والذى يناديها به، فصارت «ميرفت» فى الأوراق الرسمية، و«جاكرندا» فى البيت. وعندما ظهر الحبيب وزميل الدراسة أيام الجامعة واقتحم عالم هذه الأخيرة اعتمد “الجاكرندا” كاسم حركى يشير به إليها وسط أصحابه من باب الخجل والحرص عليها، فقد كان ريفيا بالأساس جاء من قريته «عزبة دار الكتب» بالقرب من القناطر الخيرية لكى يدرس فى القاهرة، وهنا نأتى لفصل آخر من رواية «الجاكرندا» كما تحكيها العائلة، بطلها الجد الذى عبر سريعا فى حياة الجميع لكنه ظل مؤثرا وبقوة.بين الأصدقاء، تحول اسم طالب كلية الآداب قسم فلسفة، ابن أحد أشهر قصابى القناطر، إلى «حسن جاكرندا». ولم يعترض على هذا اللقب الذى التصق به من دون وعى. نشأ فى «عزبة دار الكتب» التى ترجع تسميتها إلى عصر محمد على،

لأن العائد المادى الذى كان يجنيه الفلاحون فى الماضى كان يذهب إلى دار الكتب المصرية من أجل تطويرها. وبالطبع اتسمت حياة أهل تلك العزبة بالتناقض الشديد بين رمزية اسمها وبين انتشار الأمية بينهم، فهم يقضون كل أمورهم على شط النهر ولا يمتلكون مصاريف التعليم، باستثناء أهل حسن وقلة قليلة من السكان. كل ذلك جعله يؤمن بأفكار رأى أنه من شأنها تحسين أحوال هؤلاء، كما اتجه لدراسة الفلسفة المتماشية مع طبيعته المتأملة، إذ كان يمشى بطول النيل وبين الحقول حتى يصل إلى قرية أخرى مجاورة أعجبه اسمها وما وراءه من حكايات، وهى «قرنفيل». جذبته حكاية أنها بلدة فرعونية قديمة، بها كنوز «مطمورة»، وأن الجبرتى ذكرها فى كتابه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار» عند تناوله لقصة هروب محمد بك الألفى، أحد أمراء المماليك، إلى عرب الحويطات بناحية قرنفيل، إبان الحملة الفرنسية على مصر. خياله الجامح ورغبته فى مساعدة من حوله كانت ضمن الخصال التى جذبت «الجاكرندا» إليه، أما هو فظل للنهاية أسيرا للعينين المكحلتين ولرومانسيتها الحالمة، وأخذ على نفسه عهدا ألا تفارقها البسمة وهو إلى جوارها، فكان يرجع إلى البيت بعد زواجهما بهدية ولو صغيرة تدخل السرور إلى قلبها: كيس فستق أو باقة ورود أو علبة شيكولاتة، وهو الخبير بما تحب وما تكره. حبه للفلسفة جعله يتعامل معها كإحدى شخصيات أوفيد المتحولة التى ألهمت العديد من الفنانين والشعراء، فهى فتاة تتحول إلى شجرة مرة وإلى ينبوع مرة، مثلما فى الأساطير الإغريقية والرومانية القديمة.رغم أن «الجاكرندا» تعرف جيدا أنه لا مهرب من الموت وأن كل مخلوق محكوم عليه بالفناء، إلا أن خبر اختفائه نزل عليها كالصاعقة، وما زالت تشعر أحيانا كأن حجرا ثقيلا يجثم على صدرها. تُفضل أن تروى لأحفادها عن أول مرة اعترف لها بحبه،

ولا تتطرق إلا لماما إلى ظروف فقده. تشير من بعيد إلى تطوعه فى صفوف المقاومة الفلسطينية بغزة خلال الخمسينيات، لكن الأحداث الأخيرة قلبت عليها المواجع فراحت تتذكر تلك الأيام التى أشرفت فيها الحكومة المصرية على تدريب الفدائيين فى فلسطين ودعمت حركة الاستقلال فى الجزائر، ثم قامت بتأميم قناة السويس ما سارع بتحالف القوات الإسرائيلية والفرنسية والبريطانية لشن حرب مشتركة على مصر سنة 1956، وكانت ضمن نتيجة العدوان الثلاثى تضاؤل قوة بريطانيا الإمبريالية وتعزز الحضور الأمريكى فى المنطقة… خلال هذه السنة فقدت حبيبها. قطاع غزة خضع للاحتلال الإسرائيلى من جراء الهجوم على مصر، بدءا من شهر نوفمبر 1956 وحتى مارس 1957، قبل عودة القطاع مجددا لحكم الإدارة المصرية، فى هذه الأثناء حصلت عدة مجازر وبعد انسحاب قوات الاحتلال كان يتم العثور على مقابر جماعية وعلى جثث لأشخاص مجهولين مضروبين فى الرأس بالرصاص. خلال شهر نوفمبر وحده ارتكبت مجزرتان فى خان يونس جنوبى القطاع وفى مدينة رفح راح ضحيتهما مئات الشهداء، وحتى اليوم هناك تضارب فى عددهم، كما لم تلق هاتان المذبحتين التغطية الإعلامية المناسبة لسبب أو لآخر. لا تبالى هى بالتفاصيل.. يرفضها قلبها قبل عقلها، فحتى حين تزول الغمة تبقى الغصة.. تجد نفسها كل يوم فى وجوه من تراهم على شاشة التليفزيون، فهم من دفعوا ويدفعون الثمن.

داليا شمس – صحيفة الخليج
3ed318f1b1.jpg

كانت هذه تفاصيل خبر حب الجاكرندا لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.

كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على كوش نيوز وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.

Advertisements