عاشت إدارة الضرائب في بداية مارس الجاري على إيقاع صدمة بعد تورط قابض جهوي للضرائب بالرباط، في عمليـة اختـلاس 39 مليـــون درهــم (3 ملايير و900 مليون سنتيم)، مستغلا ثغرة في النظام المعلوماتي للإدارة، قبل أن يتم اعتقاله رفقة شريكه من طرف الشرطة. قام هذا الشخص بصرف 900 مليون سنتيم في اقتناء سيارتين من نوع رونج روفر، وBMW، واقتنى شقة فاخرة في حي الرياض سجلها باسم زوجته، فضلا عن شرائه عقارات أخرى. فكيف تم تنفيذ هذه العملية المثيرة وكيف تم كشفها؟
من أجل إعادة بناء تسلسل وقائع هذه القضية، كان على “أخبار اليوم” أن تتحدث مع مختصين ومع رفاق الشخص المتورط وتتبع المسار المهني للشخص المتورط. جميع من تحدثنا معهم رفضوا الكشف عن هوياتهم، نظرا لحساسية الموضوع.
دور الأمن الوطني
تم الكشف لأول مرة عن وقائع هذه العملية عبر بلاغ للإدارة العامة للأمن الوطني، في فاتح مارس الجاري، جاء فيه أن الفرقة الجهوية للشرطة القضائية بمدينة الرباط فتحت بحثا قضائيا، مع شخصين، أحدهما قابض مركزي بالإدارة الجبائية للضرائب، (سيتبين لاحقا أنه قابض جهوي)، للاشتباه في تورطهما في قضية تتعلق باختلاس أموال عمومية وغسيل الأموال، وأن الأبحاث والتحريات المنجزة، وعمليات التدقيق والافتحاص المحاسباتي، بينت أن المشتبه فيه الرئيسي “قام بتحويل مبالغ مالية مهمة لحساب شركة “واجهة” في اسم المشتبه فيه الثاني، بدعوى أنها مرجوعات الفائض الضريبي على الشركات، قبل أن يتم صرف المبالغ المختلسة، التي ناهزت 39 مليون درهم، في اقتناء أصول عقارية ومنقولات، علاوة على ضخ جزء منها في حسابات بنكية.
الشرطة طمأنت الرأي العام بأنه تم استرجاع “كل الأموال السائلة المختلسة تقريبا”، وحجز الأصول العقارية والسيارات المقتناة من العائدات الإجرامية، بينما لازالت الأبحاث متواصلة لاسترجاع كل الأموال المختلسة. أما الشخصان المعنيان فلازالا معتقلين في إطار البحث القضائي.
سيتضح من خلال هذا التحقيق أن المصالح الأمنية كان لها الفضل في كشف هذه العملية وتنبيه إدارة الضرائب واعتقال المتورطين. فكيف تم ذلك؟
العقل المدبر
خلف المبنى الزجاجي، للمديرية الجهوية لإدارة الضرائب بعمارة “لاسافت” الكائن بزنقة لاووس، بشارع الحسن الثاني بالرباط، وقعت كل تفاصيل عملية الاختلاس. العقل المدبر ليس سوى القابض الجهوي المؤتمن على جمع الضرائب وقد نفذ الجريمة من مكتبه. شاب عمره 32 سنة، يدعى أسامة كروم، متزوج وأب لطفلين، من مواليد الرباط. تخرج من المدرسة الوطنية للتجارة والتدبير ENCG، سنة 2011، ونجح في امتحان ولوج إدارة الضرائب في 2013. الذين عرفوه يقولون إنه “متفوق وذكي”، خضع لتكوين لمدة 6 أشهر بمركز التكوين التابع للمديرية بالرباط، حول مواضيع المالية والضرائب، ولأنه كان من المتفوقين فقد تم تعيينه في يناير 2014 موظفا في الإدارة الجهوية للضرائب في الدار البيضاء-أنفا مكلفا بالصندوق encaissement. “جرت العادة أن يعين المتفوقون الذين يلجون إدارة الضرائب في مدن الرباط والدار البيضاء”، يقول أحد المقربين من أسامة.
كان أمامه مسار مهني واعد، لولا تورطه في هذه القضية، فقد ارتقى بسرعة في سلم الإدارة الضريبية، وتولى مهاما أخرى أكثر أهمية في إدارة الضرائب في الدار البيضاء إلى حدود يوليوز 2017، قبل أن تتم ترقيته إلى قابض جهوي بالإدارة الجهوية للضرائب بجهة الرباط في غشت 2017، مكلفا بجمع الضريبة على الشركات في جهة الرباط. منصب كان يدر عليه أجرا وتعويضا إجماليا يناهز 25 ألف درهم شهريا، يقول أحد مقربيه.
المثير أنه لم تمض سوى ثلاث أشهر على توليه مهمة القابض الجهوي، بالرباط، حتى شرع في تنفيذ عمليات الاختلاس من مكتبه في “عمارة لاسافت”. هل خطط لذلك مسبقا؟ أم أنه اكتشف ثغرة في النظام المعلوماتي شجعته على فعلته؟ قبل الجواب، تشير المعطيات التي حصلت عليها “أخبار اليوم” إلى أن عمليات المراقبة الداخلية الروتينية للمفتشية العامة للمالية لم ترصد أي اختلال رغم أن التدقيق تم بعد تنفيذ عمليات التحويل. يقول مصدر مطلع؛ “الإدارة لم تكتشف شيئا ومصالح الأمن هي التي نبهت لوجود تحويلات مشبوهة”.
اكتشاف الاختلاس
في بداية مارس 2019، توصلت الإدارة العامة للضرائب بإشعار من مصالح الأمن في الرباط بوجود تحويلات مالية مثيرة للشبهات مصدرها الإدارة الجهوية للضرائب بالرباط الكائنة بزنقة لاووس، بالرباط، لفائدة شركة خاصة تسمى AGRIM POT، وصلت إلى 39 مليون درهم. كان يبدو أن مصالح الأمن قد تتبعت خيوط عمليات التحويل والجهات المستفيدة قبل إبلاغ الإدارة. تحركت مصالح المديرية بسرعة منتقلة إلى الإدارة الجهوية لاستطلاع الأمر.
تبين بعد البحث في ملف شركة AGRIM POT، أنها استفادت من أربع عمليات تحويل في إطار استرجاع فائض الضريبة على القيمة المضافة، الأولى تمت في نونبر 2017، بقيمة 600 ألف درهم، (60 مليون سنتيم) فيما العمليات الثلاث الأخرى، تمت كلها في شهر مارس 2018، وتحديدا في 5 و9 و23 مارس، بقيمة إجمالية بلغت 23 مليون درهم (2 مليار و300 مليون).
أظهرت التحريات الداخلية أن الشركة التي تم تحويل الأموال إليها، يديرها شخص يسمى مراد بنطلحة، تبين أنه أحد أصدقاء القابض أسامة كروم، لديها حسابان بنكيان لدى نفس البنك، الأول في الرباط والثاني في الدار البيضاء، وظهر أن الحساب الأخير في العاصمة الاقتصادية هو الذي وضعت فيه الأموال.
بعد نجاحه في تحويل الأموال للشركة الوهمية، اختار التريث لأشهر، ولم يبدأ في صرف المبالغ إلا في حدود فبراير 2019، بعدما اطمأن بعد مرور حوالي سنة على العمليات التي قام بها.
شرع في سحب الأموال رفقة شريكه، واشترى سيارتين من نوع رونج روفر، وBMW، كما اشترى شقة راقية في حي الرياض سجلها باسم زوجته، فضلا عن عقارات أخرى. قيمة ما صرفه بلغ حوالي 9 ملايين درهم، في حين بقي مبلغ 30 مليون درهم في حسابات بنكية متفرقة.
ومنذ تنفيذه للعملية، بدأ أسامة يتراخى في العمل، ويطلب الحصول على إجازات مرضية مطولة ومتكررة، ومع ذلك لم يثر ذلك انتباه رؤسائه.
كيف نفذت العملية؟
العملية معقدة تقنيا، لكن خبيرا في المالية شرح لـ”أخبار اليوم”، كيف تتم عمليات تحويل الفائض من الضريبة على الشركات. من أجل تحويل الفائض يحتاج القابض فقط لتوجيه وثيقتين إلى الخزينة العامة هما جدول إرسال bordereau، يتضمن المبلغ المراد تحويله، وأمرا بالتحويل لفائدة الشركة المعنية، وكلاهما يوقعهما القابض. عندما تتوصل الخزينة بالوثيقتين ورقيا، فإنها تقوم بالتحويل لحساب الشركة عبر حساب الخزينة في بنك المغرب. هذه العمليات تقوم بها إدارات الضرائب بشكل روتيني، لأن الشركات تؤدي الضرائب قبل نهاية السنة المالية، على أساس توقعات السنة السابقة، وعندما يتم إغلاق الحسابات في نهاية السنة، يتم إرجاع فائض الضريبة إذا تبين أن أرباح الشركة أقل. إذن كان على القابض الجهوي المتورط، أن يوفر ثلاثة شروط، أن يخلق شركة وأن يوفر جدول إرسال، ثم أمرا بالتحويل.
اختار صديقا له، يسمى مراد بنطلحة، وأسس له شركة سماها، AGRIM POT، وجعله هو مسيرها. أصبح للشركة الجديدة ملف لدى الإدارة الجهوية للضرائب بالرباط. ولم يبق له سوى توفير الوثائق اللازمة.
جدول الإرسال bordereau لا يتضمن اسم أي شركة، بل هو مجرد وثيقة تحمل توقيع القابض أسامة، والمبلغ المراد إرجاعه من الضريبة على الشركات.
اكتشف أسامة وجود ثغرة في النظام المعلوماتي لإدارة الضرائب، تسمح له بالحصول على جدول إرسال قديم bordereau يعود لسنة 2015، يهم استرجاع الضريبة لفائدة إحدى الشركات، يتضمن المبالغ التي يريد تحويلها، واستعمل هذه الوثيقة بتاريخ جديد مزور يحمل توقيعه، ثم قام بتزوير أمر بالتحويل. داخل النظام المعلوماتي قام بمحو أي أثر لهذه العملية. يقول مصدر مطلع إن كل التحويلات التي قام بها القابض المتهم، “تمت خارج النظام المعلوماتي”، لهذا لم ترصدها أي أجهزة رقابة.
الإدارة تنبهت إلى وجود ثغرة في النظام المعلوماتي، وشرعت في إصلاحه في مارس 2018، يقول المصدر، وهنا خشي أسامة أن يتم إصلاح الثغرة فسرع عمليات تحويل مبالغ أكثر خلال نفس الشهر. (نفذ ثلاث عمليات في مارس 2018 بقيمة 23 مليون درهم).
النظام المعلوماتي لا يقدم أجوبة، ولا أثر فيه لأي عملية من هذا النوع، لكن الوثائق التي وجهت ورقيا إلى الخزينة الجهوية في الرباط، أظهرت بالدليل القاطع وجود عملية تحويل لفائدة شركة AGRIM POT، ما دفع الإدارة لوضع شكاية لدى ولاية الأمن بالرباط، ضد القابض أسامة كروم الذي كان حينها في فترة عطلة مرضية، ليتم اعتقاله فورا رفقة شريكه ويعترف بكل ما قام به.
مشكل تبادل المعلومات مع الخزينة
مباشرة بعد اكتشاف هذا الاختلاس، عرفت إدارة الضرائب حالة طوارئ، وأخضعت جميع فروعها عبر التراب الوطني من طنجة إلى أوسرد، لعملية افتحاص وتدقيق، كما تم إخضاع النظام المعلوماتي لإصلاحات لسد الثغرات، فيما حلت فرق من المجلس الأعلى للحسابات في أقسام المديرية، لكن هناك ثغرة كبيرة لم يتم إيجاد حل لها بعد، وهي عدم تبادل المعلومات بين الخزينة العامة وإدارة الضرائب، وعدم وجود تواصل إلكتروني بين هاتين المؤسستين. يقول مصدر مطلع، إن “المعاملات الورقية مع الخزينة تشكل ثغرة”، مضيفا أن إدارة الضرائب لا تحصل على المعطيات عن عمليات الخزينة إلا مرة في السنة، في حين يجب أن يتم تبادل المعطيات آنيا. فلو أن الخزينة أبلغت إدارة الضرائب عن عمليات التحويل التي قامت بها لفائدة شركة AGRIM POT، لأمكن لفرق التفتيش الوقوف على العملية ووضع حد لها، لأنها عملية غير موجودة في النظام المعلوماتي.
في انتظار سد كل الثغرات لحماية المال العام، وهذه مسؤولية وزير المالية ورئيس الحكومة، تنتظر المتورط في هذه القضية تهم كبيرة، من قبيل الاختلاس وخيانة الأمانة وتبييض الأموال، وهي جرائم تصل العقوبات فيها إلى عشر سنوات، نظرا لصفة القائم بها كموظف ومحاسب عمومي. فقانون المحاسبة العمومية، ينص على المسؤولية الشخصية والمالية للمحاسب في حالة خطئه، أما إذا تعلق الأمر بالاختلاس، فإن ذلك أخطر..