البيوت أحلامنا.. التي لا تخُص سوانا

إعلان موجع على لافتة متوسطة الحجم، مكتوب فيه: «للبيع.. بيت لعائلة»، البناية فريدة وجميلة، كبيرة، مكونة من أربعة أدوار، غالبًا ما يكون الدور الأول للأب والأم، ودور مخصص لكل ابن أو ابنة، تشى ديكوراتها والزخرفات الخارجية بجمال الداخل أيضًا، تفصح عن اختيار دفء المحبة، والذائقة الرفيعة، وحلم الأُسرة التى خُطط لها لتظَل معًا، حيث تنطق كل تفصيلة معمارية بجماليات ضافية، وبما يكمن خلفها من مشاعر تفيض بالعطاء والمحبة، فالبيت دائمًا هو بداية القصة، الحياة الجديدة التى تُعاش فتقرِّبك من حلمك الذى عاش طويلا يقتات من ذاتك.

«للبيع.. بيت لعائلة»، كيف للقصص الجميلة أن تُغتال هكذا؟!.

وقفت طويلا أتأمل البيت، وأستحضر شخصياتِه وأجيالَه، أتخيَّل الأحلام التى يشيِّدها الآباء قبْل الجدران والأسقف التى يحرصون أن تجمع العائلة وتحتوى وتدفئ. البيوت تهبك ما لا يقال، حيث تُقحمك على الفور فيما يُعاش بالفعل، فيما يُحس ويُشم ويمكن تذوقه. تُقحمك فى المحكَّات والاختيارات التى ستبذل من أجلها، وكما تُشعرك بحلاوة العطاء، تهبك لذة الآخِذ. فكيف إذن تتبدد تلك الأمنيات التى تطوى أعمارَ الآباء وجهدهم ومدخراتهم، حين لم تعد حلمًا للأجيال الأحدث، ويتم عرضها للبيع.

تأبى قدماى أن تغادرا، حيث خيالات بشَر تتحرك على الحوائط الخارجية، التى بدت كشاشات كبيرة، ظلال أجساد تروح وتجىء، بدأت المَشاهد تمُر أمامى دافئة، تفيض بالسعادة لأم وأب وأولادهما وأحفادهما، مَشاهد من بيوتنا الحانية الحميمة، مناسبات شتى، تجمعهم فيها الأحاديث، والأطعمة والألعاب والمذاكرة ومشاهدة التليفزيون، وغيرها من تفاصيل الحياة، حيث الدعم العاطفى الدائم والمادى الذى يفيض من الآباء، فتشعر بطاقة حُب تتسرب إلى كيانك وتضيئه، ثم إذا بالزمن يهرول بكل تحولاته الدرامية، فبعد «توافق الإرادة» الذى يتبدى للجميع فى البدايات، لصغر الأبناء وعدم اتضاح رؤيتهم الخاصة، تُعرض البيوت للبيع اضطرارًا بعد كبرهم، ويتبدد الشعور بالعزوة، ويتناثر الونس، كما تتشقق الأحلام وتُجفف.

لا تخنق آخَر بحلمك.

البيوت التى يشيدها الآباء، وبعض المشروعات والمؤسسات، ويهيئون لها التواصل والاستمرار، المنازل التى يستغرقون فى تفاصيلها سنواتٍ من أعمارهم، ليظللونها بالدفء، وتنطق أركانها بالذكريات، ومن خلالها يتصور الآباء أنهم يقدِّمون الأفضل لأولادهم والأكثر أمانًا، بناءات معمارية وبناءات إنسانية أيضا يشدّون بها كياناتهم ويسندونها فى الحقيقة، قد يتصورون إنهم يحمون بها كبرهم وشيخوختهم. لكن التغيير الحتمى يأتى صارخًا، فتحت وقْع الاختلاف «الشخصيات، والزمن، والتطور» التاريخية بالمعنى الأوسع، يتكسر وهم كيان المجموع الواحد، وتنهار الأحلام التى بددت أعمار الآباء.

اللوحة تقول «للبيع.. بيت لعائلة»، كيف يباع بيت لعائلة، كيف يتحول المكان الذى حوَى الحلم لمكان يذرو كل الأحلام، ويهدد بالوحدة والنهايات؟.

فالبيوت هى السكون وسط الضجيج، الاكتفاء من صخب العالم الخارجى، الونس بالأهل والإخوة والأخوات، البيوت هى لمَّة العائلة والأصدقاء، وقصصهم التى لا تعرف معنى النهايات، تلك الحكايات التى تهَب للحياة معناها ولونها، البيوت هى التى تحوى الذكريات وتحفرها فى الأرواح لنتعلق بأهدابها وارفة الظلال.

من أجل هذه البيوت واستقرارها يقمع الآباء بذور التمرد الكامن فى النفس البشرية، يحتملون الرتابة والاعتياد، ويعلون قيمة المؤسسة التى أوجدوها ولو على حساب ذواتهم، فيتعايشون تحت أى تبدلات للحياة، إعلاءً لمصالح الأبناء، وشعورهم أن الأرض التى يقفون عليها صلبة متماسكة، تجذبهم لمحيطها الداعم، فيشعرون بالأمان والاستقرار.

وبقدر جمال البيوت وعطاءاتها يعترى حيواتها غالبا روتين ثابت، ومشكلات الحياة اليومية التى تحكمها التناقضات، ولا تبقى على حال. يقمع أصحاب البيوت كل التحولات التى هى طبيعة العلاقات، وطبيعة الحياة أيضا إعلاءً لاستقرار حياة الأسر، يحاربون الملل بصناعة الفرح، ويغرقون الاغتراب الذى يطل برأسه فى أعطاف ذواتهم البعيدة، ويغلقون عليه الأبواب، يتماسكون وينثرون البهجة بأركان المكان كما الإنسان.

تصرخ اللوحة فى الوقت ذاته بحقيقة لا يريد الآباء مواجهتها، فالجديد يفرض ذاته، إرادته هو وأحلامه، قراءة اللوحة بعقلانية تقول: ليس من حق جيل أن يصادر حلم جيل آخَر، فمن المنطقى، المتسامح مع تبدُّل الحياة، أن يستوعب الآباء أن أحلامهم لا تخص سواهم، وأنهم سبق أن خالفوا مخططات آبائهم لكنهم تناسوا، رغباتهم لا تنتقل لأولادهم، ولا يتعين على الأبناء الدوران فى فلَكها.

لماذا لا نسلم بهذا دون بكائيات؟!.

هنا يتبادر السؤال الأهم: لماذا يحتدم الصدام عنيفًا بين الطرفين أو الجيلين، وتشتعل دائرة الجدل واختلاف الرغبات؟ أحسب أن كل طرف لا يضع ذاته مكان الطرف الآخَر، لا يقدِّر احتياجاته، لا يعى كل منهما كيف تفكر النهايات، وكيف تتطلع البدايات؟ هذه البدايات التى تستقبل الأماكن بمفاهيم أخرى، ومعايير مغايرة.

ولذا تنطلق الخطابات المضادة من كل طرف، وتعلو الاتهامات، فيتحدث الكبار عن العقوق، وعدم تقدير البذل والعطاء والتخلى، ويتحدث الأبناء عن التدخل فى الحياة، والرجعية وقتْل الطموحات الخاصة، يتحدثون عن الحريات التى يقيِّدها الآباء وسلبيات الضغط عليهم.

أنا بيت ذاتى

هل بإمكان الإنسان أن يفكر بأن ذاته وأحلامه – هو فقط – هى ما يتعين أن تحركه؟ هل بإمكانه هو وفطرته الانكفاء على نفسه فقط، أن تكون حدوده هى شخصه، أعنى أن يفصل بين إرادته وحلمه وإرادة وحلم أبنائه، كيف وهو يتصور أنهم امتداداته؟.

منذ البداية يحلم أن يكون له أطفال، ثم يشرع يخطط لمستقبلهم وأمانهم، وبدوره يبدأ فى تحويل الحلم لواقع، وخلْق الكيانات التى تجمع وتضم وتؤمِّن الحياة، هل بإمكان البشر الانغلاق على أحلامهم فقط، وإذا حدَث، وهو من الصعوبة بمكان، هل يستطيع الإنسان ألا يحلم لبعضه، لأولاده، وإذا قدِموا للحياة، هل يستطيع ألا يرسم لهم أشكال القادم من السنوات، من المستقبل، وإذا لم يكن من طبيعة الآباء هذا التخلى أو الفصل بين ذواتهم وحياة أولادهم، هل يُعد هذا تدخُّلًا فى حيواتهم وفرْض القيود عليهم؟.

تأملت كثيرًا ما الحل فى هذا الصراع الدائر بين الأجيال داخل الأُسرة الواحدة؟.

أليس من الأفضل – طالما أننا سنهَب وندعم ونعطى – أن نشكِّل دعْمنا لأولادنا فى مساحات متَّسعة، فنمكنهم من الاختيار فيها، حرية خلْق حيواتهم هم، وهنا أعنى أن نهيئ لهم مدخرات بدلا من الكيانات والأماكن، ليتمكنوا فى الحركة بها، فبدلا من البيوت الكبيرة التى تُفرض عليهم، تصبح العطاءات فى صور متحركة، يمكن التصرف فيها دون أن يشعر الآباء بتخلِّى الأبناء عنهم كبارًا، واختيار رغباتهم الخاصة. ونعتهم بالأنانية، ربما وجَب علينا أن نعيد تشكيل وعْينا وطبيعة مشاعرنا.

كيف يحولون البيوت إلى قبور؟!.

فى مشهد آخَر للبيوت، تواجهنا الآن كل يوم مَشاهد الدمار لآلاف البيوت التى سُويت بالأرض فى غزة فى أشرس هجمة على فلسطين، ثم على لبنان، وهو ما يدعونا للالتفات إلى معاناة فوق الاحتمال، حيث الهدد فى الأرواح كما البناءات. هذه الشعوب لا تمتلك رفاهية هذا الصراع الذى نتحدث عنه، بل يواجهون الموت والقذف الذى لا يهدأ، وكل أنواع الخسائر المروعة، اعتادوا الدماء والخراب المحيط بهم من كل اتجاه، يعانون العراء والجوع والفقر والأمراض، دون جدران أو أسقف. لا شىء يمكن أن يحميهم، لا بيت ولا كهف، مستباحون لا يمتلكون خصوصية، كيف ارتضى المجتمع الدولى وتعايش لمدة عام كامل مع هذا الظلم الواقع على هؤلاء البشر، كيف ارتضى حرمانهم من أول حقوقهم وأهمها، حق الحياة وحق الأمن والسكن؟!.

د. أماني فؤاد – المصري اليوم

كانت هذه تفاصيل خبر البيوت أحلامنا.. التي لا تخُص سوانا لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.

كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على كوش نيوز وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.

أخبار متعلقة :