الحياة مثل نكتة مستمرة!

هذه رواية صينية مترجمة فريدة، تحقق معادلاتٍ صعبة للغاية فى فن السرد، يحدث ذلك بسهولة ممتنعة، وبقدرة حكائية فذة، مؤلفها يغترف قصصه المتداخلة من بئر عميقة، يمتد إلى جوهر الحكمة والثقافة الصينية، يستخدم مفرداتها وأساطيرها الشعبية، دون أن يتخلّى عن لمسة حداثية وتجريبية، واقعية سحرية محلية، ظاهرها السخرية والخفة، وباطنها التأمل العميق لمعنى الحياة.

الرواية بعنوان «تاريخ آخر للضحك»، مؤلفها ليو جين يون، وترجمها أحمد السعيد، ويحيى مختار، وصدرت عن دار الحكمة، كاتبها يمكن اعتباره اكتشافا حقيقيّا، يعرف شخصياته وأماكنه، ويعرف كيف يسرد بنفس طويل رائق، قد يستطرد أحيانًا، ولكنه لا يفلت أفكاره ولا تهرب منه حكمته التى تخرج من أكثر المواقف غرابة وعبثية.
وبينما تبدو الحكايات ممتدة، وبلا نهاية، تتوالد من بعضها البعض، وبينما نظن أنها مجرد محاولة لـ«رشّ الهواء»، وهو تعبير صينى يعنى «سرد القصص»، مثلما كانت جدة بطلنا تسليه بها فى طفولته، فإن بناء الرواية يظل معقّدًا للغاية، رغم هذا التفكيك الظاهرى الذى منح الرواية شكلًا حداثيا واضحًا.
هنا طموح تقنى تحقّق بدرجة ممتازة: رشّ الهواء القديم، وقد ارتدى ثوبًا حداثيًا، وبضاعة التراث وخرافاته وأمثولاته وأشباحه، والحياة السابقة، والحياة اللاحقة، وقد عادت فى ثوب معاصر وجديد.
قبل أن أحدثك عن براعة الكاتب فى ضبط معادلاته، لا بد أن نبدأ بأساس البناء كله الذى ينهض على حكايةٍ شديدة البساطة: السارد روائى مشهور، يحكى عن بلدة اسمها يانجين، وعن عجوز يطلق عليه اسم «العم السادس»، كان أصلًا من نجوم الأوبرا الصينية، ولكن ظهور التليفزيون أطاح بشعبية هذا الفن ونجومه، فعمل العم السادس سباكًا، وميكانيكيّا، ولكن ظل فن الرسم متنفسه الوحيد، فأبدع لوحات غريبة، فيها واقعية وخيال مذهل، ولأن السارد أعجبته تلك اللوحات، فقد قرر أن يحوّلها إلى رواية، مثل دين قديم يريد أن يسدده، بعد وفاة هذا العم الفنان.نحن إذن أمام كاتب يقدم التحية لفنان، ولبلده ولأماكن وشخصيات، ولكنه لن يكتفى برسم اللوحات، ولا بالحديث عن تاريخ كل شخصية، وإنما سيصنع حكاية واحدة تربط كل تلك اللوحات والشخصيات، ومن الفصل الأول يخبرنا السارد أنه سيستعين بالخيال، وسيملأ الفجوات، وسيقدم عالما واقعيا وغرائبيا، كلاسيكيا وحداثيا فى نفس الوقت.

تلك أولى ألعاب السرد، وفى قلب معنى الرواية، بتقديم التحية لفنان أجبر على ترك مهنته، فمارس الرسم، الآن سيقوم فنان آخر، هو الكاتب، بإكمال عمله، ونقله إلى وسيط جديد، هو فن الرواية، ومثلما تحرر العم السادس من الواقع فى لوحاته، سيتحرر الكاتب من الواقع، فى روايته، أى إننا أمام «إبداع على إبداع فى تحية الإبداع».
سيتضح ذلك مع تخصيص فصول للشخصيات، وملاحق واستطرادات للتفسير، بحيث نصبح أمام ما يشبه لعبة البازل، مع سريان ناعم جدا للزمن، لنكتشف أن حكاية الشخصيات فى بلدة يانجين، التى تعيش على الضحك والنكات، والتى نخرج منها إلى بلدات أخرى، لنعود إليها، هى أيضا حكاية سنوات طويلة من عمر الصين، وانتقالها من مجتمع تقليدى إلى مجتمع حديث.
قد يتوه القارئ مع عدد الشخصيات الكبير، ولكننا فى الأصل أمام عدد محدد من الشخصيات المحورية: ثلاثة ممن كانوا يغنون الأوبرا الصينية، وقد تفرقت بهم السبل بعد تراجع هذا الفن، والثلاثة كانوا أبطالا لأوبرا شهيرة جدا عنوانها «أسطورة الأفعى السامة»، تتسلل أحداثها وأغنياتها إلى النص، والرواية هى بالأساس حكاية هؤلاء، ومصائرهم. يندمج مع هذا المستوى الواقعى مستوى آخر غرائبى، محوره تلك الجنيّة التى عمرها ثلاثة آلاف سنة، ظلت خلالها تبحث عن حبيبها، واختارت أهل يانجين بالذات، لاختبار عجيب: تظهر فى أحلام من تختاره، تطلب منه أن يلقى نكتة، فإذا أعجبتها، منحته ثمرة فاكهة، وإذا كانت النكتة سخيفة، طلبت منه أن يحملها، وعندما يحدث ذلك، تتحول إلى جبل ثقيل، يسحق حامله، فيموت.
رسم العم السادس كل هذه الشخصيات فى لوحات، وجاء دور الروائى لكى يصنع منها حكاية واحدة، تنسج ببراعة علاقات الأصدقاء الثلاثة، نجوم الأوبرا، مضافًا إليها حكاية أهل وسكان بلدة يانجين، عبر فترة زمنية طويلة، ومن خلال اختبار لا يتوقف لإلقاء النكات على مسامع جنّية، لا تشبع من الضحك، ولا تملّ من عقاب من يلقى عليها نكتة سخيفة، فتعاقبه عقابا مروّعا.
إنها الصين نفسها فى لوحة واحدة متسقة، ماضيا وحاضرا، واقعا وأشباحا، ضحكا وحكمة، لا يمكن أن يمتزج الموت والضحك على هذا النحو، إلا بصنعة فن، ولا يمكن أن تعيش الأساطير وسط تفاصيل الحياة اليومية، إلا من خلال لوحة مكتوبة، تعبد بناء لوحات متناثرة، تركها فنان لا يعرفه أحد.

مساحات واسعة من السرد يتم فيها تضفير الخفة والسخرية، بالجدية والمأساة، والخيال ينتقل من أوبرا «أسطورة الأفعى السامة»، إلى واقع أبطال الأوبرا أنفسهم، بل ويبدو لنا أن استدعاء أغنيات هذه الأوبرا دائما يعلّق على الواقع نفسه، وأن الفن يضع بصمته على حياة الناس، ولا يمكن أبدا أن يموت.

امرأة ورجلان، اختارت المغنية أحدهم لكى تتزوجه، ومع ذلك ترتبط المصائر والحكايات معا، ويمثل ابن هذه المغنية، التى شنقت نفسها، الجيل الثانى من هذه العائلة الفنية. وبين الضحك والموت، والهزائم والانتصارات، وترويض الظروف الصعبة، وانتظار الجنية فى الأحلام، تتشكل حياة ذات أفق مفتوح، نخرج من الواقع، لنعود إليه، ونتأمله بصورة أكثر عمقا وتفاؤلا.
تظهر الحياة بعد اكتمال الرواية، التى لا تتوقف مفاجآتها حتى سطور النهاية، مثل نكتة مستمرة، مضحكة أحيانا، وقاتلة فى أحيان أخرى، ويبدو الموت مثل رحلة انتقال، أو كفاصل بين حياتين، سابقة ولاحقة، والمغنية المشنوقة تتمنى أيضا العودة إلى الحياة، عبر نكات جديدة.
«تاريخ آخر للضحك» تأمل عميق للحياة، وتحيّة معتبرة للحكايا وللسخرية، فلولاهما لكان العيش أضيق من ثقب إبرة.

محمود عبدالشكور – الشروق نيوز

كانت هذه تفاصيل خبر الحياة مثل نكتة مستمرة! لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.

كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على كوش نيوز وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.