«الدين حياة بالمعنى الشامل للحياة، والخلل دائمًا لا يكمن فى الدين ذاته، لكن فى الفهم القاصر للدين، ولهذا لا بد من فتح الباب لعلاقة مستقبلية توافقية بين التنوير والعقلانية من ناحية، والدين والأبعاد الروحية للإنسان من ناحية أخرى، ولا بد من تأسيس نسق فكرى يجمع بينهما، حيث لا غنى لأحدهما عن الآخر؛ فلا مستقبل لعقلانية تستبعد الأبعاد الروحية، ولا مستقبل لاتجاهات روحية تستبعد الأسس العقلانية».
تلك هى خلاصة المحاضرة الأخيرة التى ألقاها الراحل الدكتور نصر حامد أبوزيد فى مايو 2008 بالقاعة الشرقية فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وحملت عنوان «الفن وخطاب التحريم»، والتى أسعدنى القدر بحضورها فى ذلك الحين. وقد ذكر فيها أيضًا أنه كان ضحية الثقافة السمعية السائدة بيننا لأن أغلب مَن هاجموه واتهموه بالكفر لم يقرأوا كتبه، وضحية القراءة المُتربصة لمشروعه الفكرى، وضحية للوسطاء الذين نقلوا أفكاره للناس ووضعوا على لسانه ما لم يقُل به. ودافع نصر أبوزيد فى النهاية عن نفسه ومشروعه الفكرى، وقال بحسم إنه ليس بكافر على الإطلاق، ولا يُعادى الدين، ولا يوجد فى كل ما كتبه شىء ضد الإيمان، وأنه ينقد الفكر الإنسانى فقط، أما الإيمان فإنه يحتفى به ويُريد أن يستعيده بأوسع معانيه.
وقد أثارت تلك الأفكار فى ذهنى فى حينها تساؤلات كثيرة حول إمكانية تطوير مقولات نصر حامد أبوزيد فى هذه المحاضرة، والدعوة لتأسيس تيار تنويرى جديد يُساهم فى حل مأزق مشروع التنوير التقليدى الذى فشل فى إحداث تغيير يُذكر فى بنية الواقع والعقل العربى والمجتمعات العربية، وهو الفشل الذى أكد عليه كثير من المفكرين الذين ناقشوا محنة التنوير فى بلادنا.
من هؤلاء المفكر المغربى الراحل الدكتور محمد عابد الجابرى الذى رأى فى كتاب «حوار المشرق والمغرب» أن قادة التنوير لدينا تبَنَّوْا مقولات فلاسفة التنوير الغربى فى أوروبا وحاولوا غرسها فى العالم العربى، وتجاهلوا أن التنوير الحقيقى يجب أن يتم من الداخل، وأن ما يأتى من الخارج لا معنى له إلا لمن يستطيع أن ينقل نفسه إلى هذا الخارج. وذكر الجابرى أن التنوير من الداخل يتطلب فتح المجال لإعمال العقل وإزالة السلطات التى تُقيده، وإعادة بناء التراث القديم، وإلقاء النور على الحقيقة ليراها الناس كما هى.
وكذلك فعل محاوره فى كتاب «حوار المشرق والمغرب» الراحل الدكتور حسن حنفى الذى رأى أن رواد النهضة الأوائل مثل رفاعة الطهطاوى، الإمام محمد عبده، أديب إسحق، أحمد فارس الشدياق، أمين الخولى، والدكتور عثمان أمين، لم ينقلوا كتابات فلاسفة التنوير الغربى من أجل الترويج لثقافة الآخر فى بلادنا، بل أعادوا بناء أفكار فلاسفة الغرب لصالحهم وبرهنوا عليها من تراثهم الخاص، لكن جاء بعد هؤلاء جيل من التنويريين العرب مثل شبلى شميل، يعقوب صروف، فرح أنطوان، لويس عوض، وغيرهم، نقلوا فكر فلاسفة التنوير الغربى كما هو، وكأن جذور نهضتنا العربية يُمكن أن ترتد إلى اليونان والغرب بالكامل، دون الحاجة إلى إعمال العقل فى الوافد الغربى، ودون إعادة بناء تراثنا القديم.
وهو الرأى ذاته الذى انتهى إليه الراحل الدكتور جلال أمين فى كتاب «التنوير الزائف» فهاجم التنوير والتحديث من خلال تقليد الغرب، وعاب على رواد التنوير العرب تبنيهم شعارات التنوير الغربى؛ فعادوا ما عاداه التنويريون الغربيون، واتخذوا موقفًا سلبيًا من الدين واستهانوا به، وتناولوا المقدسات بأقل قدر من الاحترام بهدف ضمان احتفاء الإعلام والمؤسسات الغربية بهم. وكذلك فعل الراحل الدكتور عبدالوهاب المسيرى فى كتابه «فكر حركة الاستنارة» الذى دعا فيه إلى الاستفادة من فكر وتجربة الغرب فى رسم نموذجنا الحضارى الخاص بنا، مع عدم الدوران بالكامل فى فلك نموذج التنوير الغربى الذى يجعل العقل وحده المرجعية النهائية ومصدر القيم ومركز الكون، والذى يستبعد الدين ولا يجعل له علاقة بمنظومات الإنسان المعرفية والأخلاقية والاجتماعية.
وتأسيسًا على ذلك يُمكن القول إن خطاب التنوير العربى الذى تبنى بالكامل النموذج الغربى قد استعدى ثوابت وميراث الناس والمجتمع المستهدفين بالتنوير، وفشل فى التأثير والتغيير فى واقعنا عبر القرن الأخير، وأن أى محاولة لاستنساخه من جديد هى محاولة محكوم عليها بالفشل لأن ثبات المقدمات يُؤدى بالضرورة إلى ثبات النتائج. وأظن أن الأكثر جدوى اليوم لكل مهتم بواقع ومستقبل خطاب التنوير فى بلادنا، هو العودة لتطوير مقولات نصر حامد أبوزيد الأخيرة، والدعوة لظهور تيار تنويرى جديد يتسم أصحابه بالواقعية واحترام الدين والهوية والخصوصية فى محاولتهم تحديث المجتمعات العربية، ويُمكن تحديد أهم مقومات وغايات خطاب التنويريين الجدد على النحو التالى:
أولًا- الإيمان بالعقلانية وبأهمية الرؤية الفلسفية والنظرة النقدية، وفى الوقت ذاته التمسك بثوابت الدين، والإيمان العميق بأن الدين حياة بالمعنى الشامل للحياة، وأن الخلل لا يكمن فى الدين ذاته، لكن فى الفهم القاصر للدين، وفى رجال الدين الذين كانوا دائمًا آفة الدين.
ثانيًا- إدراك أن الدين مقوم جوهرى من مقومات هذه الأمة، وأن تمسك الناس به واحترامهم لثوابته، هو وجه من وجوه الواقع لا ينكره إلا غافل، وبالتالى فإن أصحاب المشاريع الفكرية التى تعادى الدين أو تُهمشه داخل منظومتهم الفكرية هم قوم يحرثون فى الماء.
ثالثًا- إدراك أن للأمة ثوابتها التى يجب أن تظل فوق النقد والتطاول والتجريح، وأنه لم يعد من المُجدى اليوم أن يقضى المثقفُ التنويريُّ الجديد عمره فى خصومة مع الدين وماضيه وتراثه؛ فيَنبذه سياقه ومجتمعه، ويعيش ويرحل دون فاعلية أو تأثير رغم ما قد يحققه لذاته من شهرة ونجومية وثروة.
رابعًا- إدراك أن لا مستقبل لعقل يعادى الإيمان، ولا إيمان يعادى العقل؛ بل إن المستقبل هو للعقل المؤمن الذى ينطلق من يقين ونور إيمانه بالله ليوجه سهام نقده لكل قوى الشر من البشر والدول الذين نصّبوا أنفسهم آلهة من دون الله، وأخذوا على عاتقهم أن يصير الحق باطلًا والباطل حقًا.
خامسًا- إن الهدف الأساسى للتنويريين الجدد هو الاستفادة من تجارب وفكر الغرب، وإعادة اكتشاف ما فى الدين والتراث من طاقات روحية وحضارية، والمواءمة بينهما وبين مقتضيات العقل والعصر، والسعى لإحداث تغيير فى بنية العقل العربى المعاصر ومنطلقات تفكيره، ودفعه إلى أن يعيش عصره دون أن يفقد هويته وخصوصيته الثقافية ورسالته الحضارية.
د. أحمد عبدالعال عمر – المصري اليوم
كانت هذه تفاصيل خبر التنويريون الجدد.. الدوافع والغايات لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على كوش نيوز وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.