رياح الربيع تنظف الهواء أحيانًا، وفى أحيان أخرى تلوثه. تقرب البعيد أحيانًا، وفى أحيان أخرى تأتى بما نخشاه. تداعبنا أو تصفعنا. تهمس أو تزمجر. هبت الرياح هذه المرة على العديد من الجامعات الأمريكية التى تحرك طلابها لمساندة غزة وتحرير فلسطين، ما استدعى على الفور فى الأذهان الاحتجاجات التى اندلعت فى ربيع عام 1968 للتنديد بحرب فيتنام، وامتدت إلى أوروبا على الجانب الآخر من الأطلسى، وتحولت فى فرنسا إلى انتفاضة اجتماعية واسعة انطلقت من جامعة السوربون بباريس.كما كان الحال بالنسبة لحرب فيتنام، نحن أمام شباب فى مقتبل العمر يرون أن الدفاع عن فلسطين هو اختبار أخلاقى حقيقى للعالم. اكتشف هؤلاء الطلاب الذين ينتمون لأعرق وأهم الجامعات،
التى تؤهل عادة النخب الأمريكية، أن هناك خطرًا على المستقبل الذى يحلمون به لبلادهم وعلى القيم التى تزعُم تصديرها لمن حولها. شعروا بأنهم جزء من شىء أكبر بكثير يسمى الإنسانية، وبالتالى تحدوا التغطية الإعلامية السائدة والمواقف الرسمية لبعض إدارات الجامعات وأرادوا أن يساهموا فى تعرية الأدوار ورفض التواطؤ مع الجانب الإسرائيلى، كما حدث فى ستينيات القرن الماضى إبان الحرب على فيتنام، فأوجه الشبه متعددة بين الحالتين. هناك سؤال يطرح نفسه ونحن فى خضم الأحداث، بل نقترب من موعد المسيرة السلمية التى تنظمها سنويًا الولايات المتحدة الأمريكية فى اليوم الأول من شهر مايو للاحتفال بالعمال والتذكرة بإضراب عام 1886 الذى خرج فيه أكثر من 300 ألف عامل للمطالبة بتقليص ساعات الدوام الطويل إلى ثمانية فقُتل عدد منهم فى مدينة شيكاغو، السؤال هو لماذا هذا الارتباط الوثيق بين الولايات المتحدة الأمريكية والمسيرات والاحتجاجات؟ يعبر الأفراد عنها لغويًا باستخدام كلمات مختلفة تختلط فيها الدلالات الدينية والسياسية والاجتماعية،
مثلProcession- parade- rally-demonstration- march-walk، وجميعها يشير إلى المعنى نفسه مع فوارق طفيفة، لكنها تجعلنا نتوقف عند ثقافة التظاهر وتنظيم المسيرات الاحتجاجية هناك وأصلها وفصلها وارتباطها بتركيبة المجتمع، حتى وهى تندرج بالطبع ضمن الممارسات الديمقراطية المنتشرة والمباحة فى كثير من الدول.حاولت المؤرخة الفرنسية اليهودية اليسارية، ماريان ديبوزى (1929-2021) أن تجاوب عن هذا السؤال، وهى المتخصصة فى التاريخ الأمريكى بالرجوع إلى القرن التاسع عشر وصولًا إلى نهاية القرن العشرين، وباستعراض أهم المسيرات والاحتجاجات التى شكلت علامات فارقة، وألقت الضوء على الخصوصية الأمريكية من خلال ورقة بحثية نشرتها عام 2003 فى مجلة «الحراك الاجتماعى» www.lemouvement social.net أوضحت أن المسيرات التى انتشرت خلال 1830-1840 كانت بمثابة إعلان وجود للوافدين الجدد.. هؤلاء الذين أتوا إلى المجتمع الأمريكى من إنجلترا وألمانيا وأيرلندا صاروا بحاجة لمثل هذه التظاهرات للتأكيد على مكانتهم وسط جماعات متنوعة وعلى انتمائهم علنيا لهذا الفريق أو لهذا العرق أو لهذه المهنة أو لهذه الطائفة. وخلال الفترة نفسها التى تزامنت مع أجواء الثورة الصناعية الأولى، ساهمت المسيرات فى التعبير عن الصراعات الاجتماعية ومطالب العمال وضحايا البطالة،
وصولا إلى تظاهرات الجياع فى ربيع 1894 حين زحف العاطلون عن العمل باتجاه مبنى الكابيتول، حيث مقر الكونجرس بواشنطن. استمرت مثل هذه الاحتجاجات فى الاندلاع بين حين وآخر حتى مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، وقتها تحولت مسيرة الأول من مايو فى نيويورك إلى تقليد يشارك فيه العمال والمثقفون ليعبروا عن رأيهم فى أهم القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. تارة كانت الحقوق المدنية والمساواة بين السود والبيض على رأس الأولويات، وتارة أخرى تصدر المشهد الخوف من آثار التجارب النووية خلال الخمسينيات والستينيات، ثم تحول الاهتمام بعدها إلى مأساة حرب فيتنام.فى كثير من المرات تصادف أن يهب الناس اعتراضا على ذلك الأمر أو ذاك مع رياح الربيع، تتأجج المشاعر ما بين منتصف أبريل ومنتصف مايو، ففى ربيع عام 1968 ثار طلاب جامعة كولومبيا وتبعهم آخرون، اعتصم عدد منهم داخل الحرم الجامعى وأوقفت الشرطة 700 طالب ضمن المحتجين، مثلما يحدث الآن، مع العلم أن حركة الطلاب المساندة حاليًا لغزة قد بدأت أنشطتها منذ أكتوبر الماضى وبمشاركة جماعات مختلفة تشمل يهودًا وعربًا، إذ يبلغ عدد أبناء الجالية العربية الإسلامية فى الولايات المتحدة الأمريكية حوالى ثلاثة ملايين شخص. لا نعلم إلى أى مدى ستتصاعد الأمور، ففى الستينيات ازدادت وتيرة العنف بقدوم الرئيس نيكسون وامتدت مظاهر الاحتجاجات إلى حقبة السبعينيات، وحاصر مائة ألف متظاهر البيت الأبيض فى التاسع من مايو 1970 بعد اجتياح كمبوديا. كان لسان حال هؤلاء يصرخ أيضا «لا ترتكبوا هذه الفظائع باسمنا وبأموالنا». يجوب الناس الشوارع على أمل أن يراهم آخرون فيلفتوا الانتباه إلى جسامة الكارثة.
يتحركون فيشعرون بأنهم يضطلعون بمسئوليتهم، بدلا من الاكتفاء بمتابعة الفظائع على الشاشات. يعبرون عن سخطهم وغضبهم فينتج عن ذلك مشاهد دراماتيكية أخرى تجعلنا نفقد الإيمان فى قيم تذهب هباءً منثورًا.تشير المؤرخة ماريان ديبوزى إلى أن مثل هذا التحرك فى تحدٍ واضح للسلطات يتماشى مع الطبيعة الفردانية للمواطن الأمريكى الذى يميل إلى اتخاذ مواقف مباشرة، بناءة، على الأغلب دون اللجوء إلى العنف أو الاعتماد على الأيديولوجيات. وبالتالى يمشى ضمن آخرين فى الشارع ويشارك فى مسيرات على نمط ما كان يفعله الهنود الحمر، ففى نهاية الستينيات عندما تم تأسيس الحركة الهندية الأمريكية حشدت هذه الأخيرة لمسيرات عبر القارة الأمريكية فى محاولة لتذكير العالم بتهجيرهم وإبعادهم عن أراضيهم، مثلما حدث ويحدث مع الفلسطينيين الذين كُتِبت عليهم المقارنة بالهنود الحمر. يجدون أنفسهم مشتتين فى سائر أنحاء الأرض، يرددون كلمات شاعرهم محمود درويش: «ألا تحفظون قليلًا من الشعر كى توقفوا المذبحة؟ ألم تولدوا من نساء؟ ألم ترضعوا مثلنا حليب الحنين إلى أمهات؟ (…) كنا نبشركم بالربيع، فلا تشهروا الأسلحة! (…) هنا كان شعبى. هنا مات شعبى. هنا شجر الكستناء، يخبىء أرواح شعبى. سيرجع شعبى هواءً وضوءً وماءً»، كما جاء فى قصيدة «خطبة الهندى الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض».
داليا شمس – الشروق نيوز
كانت هذه تفاصيل خبر الربيع عاد من تانى لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على كوش نيوز وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.