«الحشاشين».. تراجيديا العبد الضال

لا تنبع قيمة وأهمية مسلسل «الحشاشين»، كتابة عبدالرحيم كمال وإخراج بيتر ميمى، من ضخامة إنتاجه، وتكامل كل عناصره الفنية فحسب، لكن التميز أيضًا، وبالأساس، فى الرؤية الدرامية للنصّ، وفى الطريقة المدهشة التى رسمت بها شخصية حسن الصبّاح، والتى جعلت منه «بطلًا تراجيديًا» كما يقول كتاب الدراما، وكما وصفه أرسطو العظيم، الناقد الأول، اعتمادًا على أمثلة من المسرحيات الإغريقية.

لنتفق أولًا، قبل أن نحلل المعالجة الفريدة للشخصية، على أن كاتب الدراما التاريخية «لا يكتب التاريخ»، لكنه «يعيد قراءته واستلهامه»، وفق رؤيته الخاصة، ومن خلال لغة الدراما وأساليبها، وعبر أدوات الوسيط الفنى. كان أمام كمال اختيارين: الأول هو الأسهل، بشيطنة حسن الصبّاح، والثانى هو أن يقدِّمه كإنسان ضال، ورغم أن المؤلف ضد الشخصية، فإنه قرر أن يحلّل دوافعها، وأن يعبّر عن منطقها، وأن يكتشف صراعاتها الداخلية، وأن ينتقل بها، مثل أى كاتب دراما ناضجة، من التنميط بالأبيض والأسود، إلى اللون الرمادى.

طريق صعب وشاق، ولكنه الطريق الذى جعلنا أمام تراجيديا متكاملة الأركان، وأمام بطل تراجيدى نموذجى يمكن تدريسه، لم يولد شيطانًا، لكنه أوقع نفسه وأتباعه فى كارثة، بسبب سوء الاختيار، فتحوّلت الأخطاء إلى خطايا. كل سمات البطل التراجيدى كما وصفها أرسطو موجودة حرفيًّا فى حسن الصبّاح وفق رؤية كمال، فالبطل التراجيدى ليس شريرًا فى الأصل، بل هو شخصية استثنائية، وصاحب قرار واختيار، ولديه جسارة فى الإصرار على الاختيار، من البداية للنهاية.

وحسن الصبّاح فى المسلسل فقيه، ومتدين، وصاحب كاريزما خارقة، ولديه فراسة ودراية ببعض العلوم، ومنذ طفولته مؤمن بأنه شخصية غير عادية، تحلم بتغيير العالم.

هذا الكبرياء حدّ الغطرسة، مع الإيمان الكامل بالذات، وبقدرتها الاستثنائية، سمة أخرى أساسية فى كل بطل تراجيدي، لذلك يتحرك تقريبًا بما يشبه «الوسواس القهرى» أو «الفكرة المسيطرة»، بل قد يصبح هو الفكرة نفسها، من دون تراجع أو مراجعة، مع أن الأحلام تكون دومًا أضعف من القدرة. بسبب هذا التفاوت بين الحلم والقدرة، ونتيحة سوء التقدير، يسقط البطل التراجيدي، دومًا وحتما، فيما يسمونه «الهامارتيا»، أو «الخطأ التراجيدى القاتل»، الذى يقود صاحبه إلى الهلاك، فتكتمل عناصر «المأساة».

حسن الصبّاح ارتكب عدة أخطاء تراجيدية متراكمة، بدأ أولًا رمزيًا فى اختيار الظلام، وليس النور، منذ الطفولة، وسيتطور هذا الاختيار إلى حلم محورى يقوم فيه حسن الصبّاح بقتل حسن الصبّاح الآخر، ليتخلص من «ذات» يمكن أن تراجعه، ويصبح عبدًا لذات أخرى تنشد سلطة أقوى من سلطة الحاكم أو الأمير (نظام الملك)، أو سلطة الفن والعلم (صديقه الثانى عمر الخيّام). إنه يريد سلطة الدين والإيمان، بعد أن اكتشف أن «الإيمان هو السلطان الأعظم».

الخطوة الأولى فى سبيل ذلك أن يدعو إلى نزار، وأن يصبح وكيل الإمام، لكنه سرعان ما يصبح صوت الإمام وناقل وحيه، ثم يتحول هو نفسه إلى الإمام، ومع استخدام العنف، والترويج لامتلاك «مفتاح الجنة»، «يتألّه» حسن الصباح، ويمتلك الأنفس، ويتحصّن بقلعة تفتح على السماء. حسن الصبّاح خلق أسطورته بنفسه، ثم صدّقها، وأصبح أسيرًا لها، لا يمكن الآن أن يعود كمجرد فقيه عادي، وهو يعرف بالقطع أنه ليس إلها حقيقيًا، وداخل هذه الدائرة المحكمة التى تورط فيها بأخطائه الفادحة، ينشأ صراع شكسبيرى نموذجى، وتصبح الشخصية شديدة الثراء دراميًا.

فهذا إنسان بكل تناقضاته، تحوّل من عبدٍ مؤمن، إلى عبد ضال ومضلّ، وكلما تهددت أسطورته، تورط فى خطايا جديدة، ليقتل ابنه، ويأمر بقتل زوجته، وليصمت على مهزلة طيران ابنه الثاني، ولا طريق سوى النهاية المحتومة، والأنسب فعلًا له أن يصاب بالاضطراب، وأن يُعاقب العالم الكبير بألا يعلم شيئًا، وأن يدخل إلى متاهة غياب العقل. يفسّر لك هذا التحليل لماذا كان كثيرون معجبين بالشخصية، فكما ذكرنا فإن «البطل التراجيدى» شخصية غير عادية بالأساس، وهو يختار عن وعى، وبمنتهى القوة، ولكنه يستأهل نهايته الكارثية، وهو يؤذى الكثيرين فى طريقه، ثم يدمّر نفسه. إنه فى الواقع إعجاب مؤقت، يشبه مثلًا إعجابنا بمن اقتحم قفص الأسد بكل شجاعة، وصارعه بقوة معتقدًا أنه سيهزمه، فإذا أكله السبع، شعرنا بمدى غباء الرجل، وبمدى غروره، وبسوء تقديره للأمور، ثم نقول إنه يستأهل بالتأكيد مصيره البائس.

الدراما الهزيلة هى التى تشيطن البشر، أو تجعلهم ملائكة، ولكن الدراما الناضجة هى التى تحوّل البشر وتناقضاتهم إلى أسئلة، وهذا هو الحال أيضًا فى شخصيتى نظام الملك، وعمر الخيام، والأخير بالذات هو طوفان من الأسئلة المفتوحة، حتى الإمام الغزالى يبدو إنسانًا متفهمًا ومتسامحًا، وكمال سينتصر هنا أيضًا لشخصياته الصوفية، التى يمثلها فى المسلسل الإمام الغزالي، والمتصوف العظيم عبدالقادر الجيلانى. حسن الصباح -إذن- ابن اختياراته وغطرسته، فرعون آخر احتكر المعرفة والصواب، ووزّع صكوك الحياة والموت، فانتهى به الأمر إلى انتحال سيرته.

والحقيقة أن التراجيديا التى تثير الشفقة والخوف فى نفس المتفرج تدعونا أيضًا إلى التأمل، وبينما تبرز فى البداية معانى القوة والجسارة، بل وربما النبل أحيانًا، فإن الكارثة التى تنتهى حتمًا إليها تخبرنا بوضوح بأن الإنسان كائن ضعيف، وأقل بكثير من غطرسته وثقته وعلمه وشجاعته، وتؤكد لنا المعنى المعروف بأن الطريق إلى النار محفوف بالنوايا الطيبة، وبالأهداف العظمى أحيانًا. هذا اختيار فذ للمعالجة من عبدالرحيم كمال، ذلك أن أنسنة حسن الصباح جعلت الحكاية مفرطة الواقعية، وكأن المؤلف يقول إن «أيّ إنسان» يمكن أن يصبح حسن الصبّاح إذا فكّر بمثل هذه الطريقة أو كأنه يذكّرنا بأن أمثال حسن الصبّاح حولنا، بدون قلعة أو سيوف، ونهايتهم دومًا أن يأكلوا أنفسهم.

مسلسل «الحشاشين» تراجيديا رفيعة الإتقان، كتابةً وتنفيذًا، عن فشل الإنسان، مهما بلغ من علم، فى أن يكون إلهًا.

محمود عبدالشكور – الشروق نيوز

كانت هذه تفاصيل خبر «الحشاشين».. تراجيديا العبد الضال لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.

كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على كوش نيوز وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.