أمام انتشار كرة القدم وشغفِ شعوب الدول الإسلامية بها لم يَعُد شيوخ التطرف قادرين على الإعلان صراحة عن تحريمها كما فَعل أئمتُهم مِن قبل. لكنهم لم يقفوا مكتوفي الأيدي بحجة عموم البلوى واتساع الخرْق على الراتق، فأخذوا يسلكون طرقا ملتوية وتكتيكات مراوِغة للترويج لأطروحاتهم واستمالة الناس إلى آرائهم الشاردة. تفتَّقَت أذهانهم عن أفكار شيطانية تحْمل الناس على الإصغاء لأئمة الضلال والانصياع لدعوتهم؛ وما أكثر الأبواق المخادعة التي تضادُّ الرأي العام السائد كأهداف تسجَّل ضد المرمى وعكس مجرى اللعب! وما أشدَّها على المواهب الشابة حين تجرُّها إلى الخلف وتبعدها عن مِنَصات التتويج!
أثناء إقامة كأس العالم بقطَر أخذ دعاة الرجعية يُشَنعون على كل من يشاهد المباريات على الشاشات أو يسافر ليتابعها على الملاعب مستعمِلين في ذلك قياسات خاطئة واستدلالات مُموِّهة. والمثير للاهتمام في هذا الصدد أن افتراءات الشيوخ كانت تنْبَني خاصة على مغالطة القسمة الثنائية الزائفة، منها قولهم: “ذهب الناس إلى قطَر لمشاهدة مباريات المونديال ولم يذهبوا إلى مكة لحج بيت الله الحرام”؛ وكأن الأمْر يتعلق برِحْلتين لهما نفس التوقيت والشروط والدوافع؛ وأكثر من ذلك، كانوا يُصِرون على وضع المقهى في مواجهة المسجد مُردِّدين: “لقد جلسوا في المقهى لمتابعة كرة القدم ولم يحضروا صلاة الجماعة في المسجد”، على اعتبار أن المساجد تكون مملوءة عن آخرها خارج أوقات “المونديال”! بل منهم من لجأ إلى التكفير المقَنَّع عندما قال بشأنهم “واش دابا هادو مسلمين؟!”.
وِفق هذه المغالطة دائما، فأنت إن لم تكن معهم ضد الكرة فلست مثلهم في تقربهم إلى الله؛ وهكذا قالوا بنِيَّة التضليل الفقهي: “خرجَ المَفْتونون بكرة القدم إلى الشوارع فرَحا بفوز المنتخب ولم يخرجوا لصلاة الاستسقاء”. ولم يكْتفوا بذلك في حربهم على الكرة وعُشَّاقها، فبعْد أن وَصف أحدُ فرسان الدعوة اللاعبين والمتفرجين بالحَمْقَى أقحمَ مغالطة التوسل بالعاطفة لتبشيع الاحتفال بالفوز إذ لَم يَرَ في خروج الجماهير إلى الشارع إلا عرقلة لمرور سيارات الإسعاف. ومما يؤخَذ أيضا على فقهائنا السُفِسْطائيين قولهم: “تَجد الشاب يحفظ أسماء اللاعبين، ولو سألتَه عن اسم صحابي ما عَرَفَه”؛ وهُمْ بذلك يتصورون ذاكرة الإنسان مكوَّنة من خانات لا تَسَع إلا فئةً واحدة من الأسماء، سُرْعان ما تمتلئ وترفض المزيد. وتساءل بعضُ من يتقنون خلط الأوراق بتوظيف القياس الوهمي: “لماذا لا يُخصَّص استقبال كبير للفائزين بمسابقة تجويد القرآن على غرار الاحتفال بلاعبي كرة القدم؟”؛ وما هذه إلا محاولة مكشوفة لِجرِّ الجمهور إلى حصر الأمور في مقارنة ساخرة بين الجلدة المنفوخة والمصحف الشريف.
أما في كأس العالم للسيدات فقد ارتفعت أصوات التيارات المغردة خارج السرب إلى أقصى مدى، خاصة تلك التي تكرس هيمنة الرجل وتهميش المرأة. ومن الجدير بالذكر هنا أن شيوخ التطرف يرَوْن أن كأس العالم مَحْفل شيطاني تقف وراءه الماسونية والصهيونية العالمية، وأن المرأة -صوتا وصورة- هي السبب الأساسي وراء كل فتنة عظيمة؛ فكيف بهما إذْ يجتمعان في “مونديال” السيدات؟!
فلا عجب إذن أن يقول أحد الفقهاء الذين يُميِّعون الدين بتسطير التقسيم الجنْدَري في العقول “مَن بارَك لِفوز منتخب النساء فقد رضِي أن يَعصيَ الله”. هنا لمْ ينصَب النهيُ فقط على لعب كرة القدم النسائية أو مشاهدة مبارياتها، فهذا الأمر مفروغ منه عند أذناب الوهابية منذ أن حرَّمت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية لعبة كرة القدم بمُوَاصَفاتها التي لا تنْفكُّ عنها؛ ولكن عند الشيخ الذي تبرع علينا بهذه الفتوى مجرَّد تهنئة الفريق بالفوز يُعتبر رِضى بالمعصية، مع العلم أن الذي يرضى بمعصيته شَرٌّ من العاصي. هذه الفتوى فتحت المجال لمواصلة زرع الفتنة بين الناس، حيث أعلن أحد المشايخ الاحتفالَ بإقصاء المنتخب المغربي للنساء. طبعا، هلَّل الأتباعُ لموقف شيخهم وفرِحوا بإقصاء “لبؤات الأطلس” على صفحاتهم المعزولة في العالم الافتراضي، لكن على أرض الواقع لَمْ نشاهد حشودا من النساء والرجال ولم نسمع هتافات الصغار والكبار؛ فالولاء لشيوخ التطرف لا يمْكن أن يقارَن بشعور الانتماء للوطن، وعقيدة الوسطية والاعتدال أكبر مِن أن يجْرفَها تيار التشدد.
واستعمل آخرون مغالطة المنحدَر الزلق عندما اعتبروا متابعة النساء للمباريات في المقاهي قلة حياء تجرُّ حَتْمًا إلى ما لا تُحمد عقباه، وكأن أوضاعهن في أماكن أخرى كالحافلات والسويقات أفضل حالا. وبعض الشيوخ، لِما هُمْ عليه من الحَنَق على حريات المغاربة، لم ينطفئ شغبهم برؤية الحجاب والسجود على رقعة الملعب، إذ كثُرَ لغطهم حول شروطهما وضوابطهما الشرعية بإغراق الساحة الدعوية المغربية بالفتاوى المهربة من الخارج التي لا تراعي مقاصد الشريعة ولا تقِيم وزنا لتَديُّن المغاربة.
صراحة، أعجب لهؤلاء الذين لا يَجدون في خريطتهم الفقهية مكانا للمستطيل الأخضر، حيث تُزرع الروحُ الرياضية المؤلِّفة بين الشعوب وتتجلى الروح القتالية النابعة من حب الوطن. ولا أدري لِمَ يُكِنون كل هذا الكُرْه للساحرة المستديرة، فالذي يطمَئن إلى هذه الفقهيات أشبه بمن يأمَن مكْرَ الكرة في مربع العمليات! ومن أغرب الفقهيات الواردة في هذا الباب ما تضَمَّنه كتاب “حقيقة كرة القدم” من محاذير اللعبة ومحظوراتها مثل سفر المسلم إلى بلاد الكفر، وتعطيل الجهاد، وترويع اللاعب الخصم بالتسديدات القوية.
كان الصحابة رضي الله عنهم يتجنبون سؤال رسول الله عن الأشياء التي يسكت عنها. أما الآن، فإن الفقهاء الذين يمتلكون مهارات فردية في اللعب بالعقول يرحبون بكثرة السؤال، ربما لكسْب المزيد من المتابعين والحصول على أجر عظيم! وبخلاف هؤلاء الخُنْفُشاريين الذين يتكلمون في كل شيء بالباطل هناك العلماء الحقيقيون، الذين يتَوَرَّعون عن إقحام الدين في كل صغيرة وكبيرة، ولا يتكلمون في سفاسف الأمور، ويعتقدون أن الأصل في الأشياء الإباحة. هُم أهل الحق الذين لا يتواطؤون على إشاعة الأباطيل؛ لكن بسُكُوتهم يتَوهَّم أهل الباطل وأشياعُهم أنهم على حق. وإذا بقيت الأمور على هذا المنوال، سيأتي عصرٌ يتحدث فيه الناس عن إجماع الفقهاء على ما نراه اليوم آراء متهافتة؛ هذا ما حدث في الماضي وسَمَّوه الإجماع السكوتي. الكرة الآن في ملعب الفقهاء؛ فتسلُّطُ تجار الدين الذين انسلخوا عن الدعوة إلى الله وانخرطوا في التنمر على اللاعبات واللاعبين وجماهيرهم قد يضع مستقبل الرياضة في كف عفريت.
عبدالعزيز سعدي – هسبريس المغربية
كانت هذه تفاصيل خبر الكُرة في ملعب الفقهاء لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على كوش نيوز وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.
أخبار متعلقة :