«لم يبدأ تاريخ المقاومة الفلسطينية فى السابع من أكتوبر 2023؛ بل بدأ منذ نكبة 1948، ومن قبلها بسنوات، حين بدأ اليهود فى شراء الأراضى من بعض العائلات الفلسطينية، ومن لحظتها استمرت الوقائع والحروب والأحداث المتوالية».. استهَلَّ المخرِج (يسرى نصر الله) عرْض فيلمه «باب الشمس» – فى النسخة المُرَمَّمة بمهرجان الجونة – بهذه المقدمة، متمنيًا النصر لفلسطين وتحررها من عدِّوها الشرس.
فيلم «باب الشمس» مأخوذ عن رواية صدَرت عام 1998 بنفس العنوان، للروائى اللبنانى القدير (إلياس خورى)، وعُرض للمَرَّة الأولى فى مصر عام 2005، كما عُرض فى مهرجان «كان» ومهرجانات أخرى متعددة، رغم محاربة الجمعيات اليهودية للفيلم وسَحْبِه من السينمات.
بعد متابعتى للفيلم بجُزئَيه؛ شعرت بامتلاء فنى وإنسانى ثَرى، سينما مختلفة لمخرِج مصرى مبدع، له رصيد حافل من الأفلام المميزة، فمنذ المَشاهِد الأولى تستولى عليك حالة فنية خاصة لمخرِج لا يمتلك رؤية فقط، بل يهيمن ويذلل تقنياته السينمائية التى تحققها. حرِص (نصر الله) على تجسيد تاريخ المأساة الفلسطينية مجدولًا مع التفاصيل الإنسانية الحميمة التى تقدِّمها الصورة السينمائية ببراعة وحميمية؛ فتستشعر أن المَشاهِد والتقاطات الكاميرا تنغمس فى الطبيعة البَشرية بفِطرتها وتلقائيتها، بغرائزيتها ونُضجها، بفجيعتها.
فمنذ الاستهلال بمَشهد تقشير برتقال أرض فلسطين، وطريقة التهام الشخصيات له، أو سَير العروس على العنب ليلة الفرح، كعادات الزواج الفلسطينية؛ تتشكَّل مَشاهِد الفيلم بآليات تُبرِز واقعية الحواس التى نتلقَّى بها العالَم، وفى الوقت ذاته تزخر بدلالات رموزها. الأكثر جمالًا، كان زوايا تصوير تلك المَشاهد التى تستجلى ثراء الواقع وزخَمه بغرائز البشر الطبيعية، ورغبتهم فى البقاء، والإصرار على المقاومة، لكنها أيضًا تتشكَّل لتُسجِّل أقدار الفلسطينيين المؤلمة.
فى فيلم «باب الشمس» لا يقدِّم يسرى نصر الله، ولا إلياس خورى، صراع الشعب الفلسطينى ونكْبته مع الصهيونية، من منظور الفدائيين المحاربين فقط، ولا مراحل الشتات والنزوح القسرى عن أراضيهم، سواء فى بيروت أو الأردن أو تونس أو غيرها من البلدان؛ بل قدَّما تعايشهم مع الحياة، رغم هذه النكبة الممتدة أكثر من 75 سنة، حيث حرِص الكاتب والمخرج – الذى شارك فى كتابة السيناريو والحوار مع (محمد سويد) – على إبراز إنسانية البَشر.
فجسَّدا قصة حُب ممتدة، حكاية تَخرج عن السائد وتسلك سبيل الجرأة فى عرْضها لمشاعر البَشر وتناقضاتهم، بداية من النفور النسبى بين الزوجَين الصَّبِيَّين؛ لحداثة السِّن والتجربة، حتى قصة العشق الآخاذة رغم الصعوبات القصوى، ويتكشَّف هذا فى شخصيَّتَى يونس (عروة نيربية)، ونهيلة (ريم تركي)، أو بشكل آخر شخصية دكتور خليل (باسل الخياط)، وعشيقته الفدائية شمس (حلا عمران)، بخصوصية وطبيعة كل حالة إنسانية متفردة، ومراحلهما على مَرِّ الجُزئَين.
لقصة الحب بين (نهيلة) و(يونس) ظَرْفٌ استثنائى، تتحكم بها ظروف حياة فدائى فلسطينى يتسلل كل آنٍ من لبنان، حيث المقاومة المنفية فى مخيم «تل الزعتر»، ليعود لزوجته فى بلدة «دير الأسد» الواقعة تحت الاحتلال الصهيونى.. فيلتقيان سِرًّا فى الكهف، الذى سمياه «باب الشمس»، دلالة على ما يتركه الحب من دفء ونور على حياة العاشقين.
لا يقدم المخرِج فيلمه عن تاريخ القضية الفلسطينية متحاشيًا الإنسان وبشريته وغرائزه؛ بل يجسِّد – فى مَشاهِدَ مُرهَفة – الإنسانَ فى لحظات احتياجه للتواصُل الصادق، لحظات قُوَّته وضَعْفه، عدم فهْمه لذاته أحيانًا، انسحابه من الحياة، وهو ما أصاب (نهيلة) بعد أن مات ابنها البِكْر، كما تضفِّر الصورة العاداتِ والتقاليدَ الاجتماعية الفلسطينية فى الزواج، والعمل، والطعام، وترصد بعض مَشاهِد الشتات والنزوح بالحوار؛ بمعنى أنه يجسِّد بَشرًا فى كل حالات الحياة، حتى وإن كانت الحرب. ولقد قرأتُ أن المخرِج (يسرى نصر الله) عاش فى لبنان فترة ما بين (1978 – 1982) وعمل بالصحافة؛ ولذا استطاع معايشة الفلسطينيين فى المخيمات وسماع حكاياتهم، وألمَّ بطبيعة طقوسهم الحياتية، واعتاد لهْجتَهم، كما تلمس روح المكان التى جَرَت فيه أحداث الفيلم، وشَعَر بطبيعتها الخاصة.
يبدأ الفيلم بصدمة، قتْل (شمس) – حبيبة (خليل) – لأحد الأشخاص، بعد أن تطلب منه أن يتزوَّجها، تُرديه قتيلًا وتهرب، يتَّهِم الناس (خليل) بأنه حرَّضها؛ فيختبئ فى المستشفى، ليعتنى بجسد (يونس)؛ البطل الفدائى، الذى دخَل فى غيبوبة بعد موت (نهيلة)، تستولى على (خليل) الرغبة فى إنعاش ذاكرة (يونس)؛ فيظل يُعيد على أُذنَيه قِصَّةَ زواجه بـ(نهيلة) بكل تحوُّلاتها، وهو بعض ما قصَّه (يونس) على (خليل) أثناء تزامُلهما فى المقاومة.
ورغم اختلاف أسلوب إخراج (يسرى نصر الله) عن أستاذه (يوسف شاهين)؛ إلا أن هناك بعض التأثيرات فى بنية شخصية (خليل) مثلًا وطريقة أدائه، حيث التشابه مع شخصيات شاهين المتلعثِمة أحيانًا، أو التى تنْدَهُها أفكارُها وتسيطر عليها فتحركها على نحو خاص، وأيضًا التأثُّر به فى بعض التقنيات السينمائية التى تعتمد على التفكيك فى بنية السيناريو، والانتقالات الزمنية العشوائية التى تتقافَز بين الحاضر والفلاش باك، أيضًا إبراز مناطق الحَيرة والتأرجُح فى حياة الشخصيات وعُقدها التى تخلُق صراعًا معقَّدًا، مثل شخصية (شمس)، ومعاناتها فى زواج سابق غير آدمى.
فى أحد المشاهد المؤثِّرة، فى الجزء الثانى من الفيلم، تقول (نهيلة) لـ(يونس)؛ زوجها: «ماذا تعرف عنَّا، عن حياتنا وأنت تغيب أحيانًا سنة كاملة دون أن نراك؟، ماذا تعرف عن أولادنا، الذين أنجبتُهم بعد كل هذه السنوات، أحلامهم ومخاوفهم؟.. نعرف نحن بطولاتك وقصصك التى ترويها، لكنك لا تعرف احتياجاتِنا أنا وأطفالك وأبوَيك؟».
تصمد قصة الحب – التى لا يقدِّمها المخرِج معقَّمة ولا مثالية – بين (يونس) و(نهيلة) رغم الشتات والمخاطرة كل لقاء، خوفًا من أن يتم القبض على يونس فى أى مَرَّة يتسلل فيها إليها، ورغم احتجاز سُلطة الاحتلال لـ(نهيلة)؛ لتعترف بمكان (يونس)، فتُنكر (نهيلة) أى تواصُل بينها وبين (يونس)، فيسألونها عن والد أبنائها، مَن هو؟
كما ينسج المخرِج بفيلمه رؤية رومانسية ناعمة، رغم قهْر الواقع وصعوبته، من خلال مَشاهِد ومفردات تصوير تُحيل علاقة (يونس) و(نهيلة) تحت الاحتلال والحروب لعلاقة عِشْق رائقة، ذلك حين تُحوِّل (نهيلة) مغارة صخرية فى الجبل إلى لون الشمس ودفئها، فتُحيل جمودها وقسوتها إلى كهفِ عشْقٍ حالِم، بما تنثره من الورد والشموع والأغانى، بما تُعِدُّه من الأطعمة لحبيبها، فرغم استلاب الأرض والمكان، تستطيع (نهيلة) بمحبَّتها أن تُحيل قسوة الحياة وحروبها وصخريتها إلى الدفء والخصوبة والاستمرار.
كما تأتى بنية شخصيات الفيلم شديدة التنوع، سواء الأبطال الرئيسة، أو أبطال الأدوار الثانية، مثل والد (يونس)؛ الشيخ الضرير، الذى أصر على أن يزوج ابنه رغم انضمامه للفدائيين، وأن يشهد له أحفاد، ووالدته التى لا تطيق اقتراب أحد من ابنها، أو أن يتمتع بحظوة لديه.
فى مشهد بديع، يفصِح عن قوة إرادة (نهيلة)، تُعلن عن رغبتها فى تعلُّم القراءة والكتابة؛ فتلبس كما الرجال، واليهوديات التى تلاحظهن من وراء الأسيجة الشائكة وتعجب بانخراطهن فى الدراسة، فتذهب إلى الكُتَّاب رغبةً فى التعلم، يستوعب طموحها الشيخ، والد زوجها؛ ويبدأ يعلِّمها قراءة القرآن وبعض أبيات الشِّعر؛ فتستعذب الكلمات وتردِّد وراءه:
نقِّل فؤادَكَ حيثُ شِئتَ مِنَ الهَوَى ما الحُبُّ إلا للحبيبِ الأوَّلِ
هى ذاتها (نهيلة) الشامخة، التى تقف أمام الضابط الإسرائيلى وهى حامل، فيسألها: مَن والد مَن فى بطنها؟؛ فتقول: لا أعرف؛ فيعذِّبونها ويحتجزونها فى الظلام، لكنها لا تعترف على زوجها، فى التحقيق تعلن بإصرار: أنا عاهرة.. ثم تعود إلى القرية مرفوعة الرأس، تخبرهم بحقيقة لقائها بزوجها، كما تحكى – له هو الآخَر – ما حدَث.
(نهيلة) التى نادت فى جموع النازحين الحيارى فى الصحارى، وقالت: أنا عائدة إلى بيتى. فعاد معها مَن عاد مِن الأهالى، هناك وجدوا جنود الاحتلال قد استولوا على كل شىء، وجمعوا الملابس ووضعوها فى حاويات بعد تصنيفها، ولذا قالت عجوز ساخرة: «والله اليهود منظَّمين»!.
ينتمى فيلم «باب الشمس» للسينما التى تنطلق من رؤية جادة للفن، تؤمِن بأن السينما أكثر الفنون التى تجسد حياة البَشر، وأدَق تناقضاتهم وصراعاتهم، كما تؤمن بأن الإنسانية هى جوهر الوجود الحقيقى.
الفيلم إنتاج عربى أوروبى مشترَك، توافرت له كل عناصر صناعة السينما التى تُغْنِى العين والعقل والروح، بصِدق تصوير الواقع، والوعى بتراكب معطياته الإنسانية، وهو ما تجسد بفنيات صناعة المَشاهِدَ والحوارات والصراعات، كما نجح المخرج بالتقاط نبض المكان والزمان الفلسطينى الذى يقاوم الاستلاب، وتضافر الديكور مع تصميم الملابس والموسيقى الشامية فى إبراز البيئة الخاصة، يقول مخرِج الفيلم: إنه بنَى ديكورًا كاملًا للقرية التى تحتضن الأحداث فى جبال سوريا، وأبرز من خلال مجموعات كبيرة مسيرات نزوح الفلسطينيين بعد النكبة.
وفى مجموعة من المَشاهِد ذات الدلالات الاجتماعية والإنسانية، يجسِّد المخرِج جموع الشعوب كما هُم، بشهامتهم وتوجساتهم وزلاتهم معًا، تقول والدة (يونس) لـ(نهيلة): إنَّ أهل القرية يعتبرونها ساحرة، ويتحدثون عنها؛ لإنجابها كل هذا العدد من الأطفال دون رؤيتهم لزوْجها، كما تجسِّد أحد المَشاهِد بعض الخيانات، حين جاء أحد العملاء للعَدِوِّ وهو مغطَّى الرأس؛ ليتعرَّف على أهالى الفدائيين (الإرهابيين من وِجْهة النظر الإسرائيلية).
كما أصر المخرج على إبراز وِحدة المشاعر العربية، وتعاطُف الجميع مع الفلسطينيين، من خلال مَشهد معبّر لضابط لبنانى فطن، ساعَد (يونس) فى الخروج حُرًّا من الاعتقال؛ ليعكس أصالة الشعب اللبنانى المتعاطِف مع المأساة الفلسطينية، كما يتجلَّى هذا الإيمان بحق الفلسطينيين من خلال مَشهد آخر لضابط من المتطوِّعين العرب يقود مجموعة من الجنود المتمركزين على حدود الجليل، وحين يطلب أهل الجليل المساعدة؛ يخبرهم الضابط: «آسف، ماكو أوامر»، وبعد سقوط المدن الفلسطينية، ينتحر مطلقًا على نفسه الرصاص.
بعد مشاهدة فيلم «باب الشمس» للمخرج الكبير (يسرى نصر الله) وجدتنى أتساءل: لماذا لا تدعم الدولة المصرية بقطاعاتها الإنتاجية هذه الطاقات المبدعة الحقيقية، حيث بإمكانهما معًا صناعة هذا المستوى الفائق من السينما، ليزداد عدد الأعمال الفنية الحقيقية التى تحمل رؤية وحياة؟.. كيف لا تذلل كل الصعوبات من أجل أن تطلق إبداعاتهم وعطاءاتهم التى تصب فى قوة مصر الناعمة، تلك القوى التى ملكت بها أذهان وثقافة العرب على مدى عقود من ازدهار الفنون، وأولها فن السينما؟!.
د. أماني فؤاد – المصري اليوم
كانت هذه تفاصيل خبر الحب والحياة.. رغم الحرب والنكبات! لهذا اليوم نرجوا بأن نكون قد وفقنا بإعطائك التفاصيل والمعلومات الكاملة ولمتابعة جميع أخبارنا يمكنك الإشتراك في نظام التنبيهات او في احد أنظمتنا المختلفة لتزويدك بكل ما هو جديد.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على كوش نيوز وقد قام فريق التحرير في الخليج 365 بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.